التضخم.. أصبح عدو المصريين الأول, ومرضا مزمنا أصاب الاقتصاد الوطني في مقتل, فبينما تنحسر معدلات النمو بين2 % و3 %, تزيد نسبة التضخم علي11 %, بينما لا تتجاوز تلك النسبة في دول عربية كالإمارات حاجز1% وفي السعودية3% في أسوأ الظروف. وعلي الرغم من أن غالبية المصريين يحصرون آمالهم البسيطة في العيش الكريم والعدالة الاجتماعية, فضلا عن الحرية, فقد فشلت حكومات متعاقبة في تحقيق تلك الآمال أو علي الأقل أن تخطو نحوها ولو ببطء. التضخم يهدد بشكل أساسي أركان الاقتصاد المصري, فارتفاع معدلاته معناه ارتفاع الأسعار, وإذا غابت الرؤية الاقتصادية الرشيدة يتطور كالمرض فيؤدي لتآكل جهود التنمية, وارتفاع الدين العام الذي بدوره يحمل الموازنة العامة أعباء تعوق الدولة في مجال توفير الخدمات الأساسية.. فكيف يمكننا علاج ذلك المرض العضال. يقول الخبير الاقتصادي الدكتور رشاد عبده: إن معدلات التضخم تختلف من دولة إلي أخري, والمسألة تخضع لعدة عوامل, منها دور الحكومة في تحفيز الاقتصاد, والآليات الرقابية لضبط الأسواق, وحجم معدلات الإنتاج, مشيرا إلي أن معدلات التضخم في العديد من الدول العربية والغربية لا تتجاوز1 % بينما في مصر تتجاوز11 % سنويا طبقا للإحصائيات الرسمية, و20 % وفقا للإحصائيات غير الرسمية. ويوضح أن الدول ذات السياسة الاقتصادية الناجحة تستخدم التضخم كأداة لرفع وتحفيز معدلات التنمية الاقتصادية, لافتا إلي أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تضخ كميات ضخمة من النقود, مما يرفع من معدل التضخم, ولكنها تستخدم تلك الدولارات في شراء الأصول الخاسرة, ثم تعيد هيكلتها لتتحول إلي أصول رابحة, كما حدث في الأزمة المالية العالمية عام2008, بما يسهم في حماية الأصول الرأسمالية, واستمرار ارتفاع معدلات الإنتاج, وكذلك حماية الآلاف من فرص العمل من الضياع, بينما في مصر عكفت الحكومات المتعاقبة علي ضخ مزيد من النقود لتوفير العلاوة الاجتماعية السنوية دون أن يقابل ذلك زيادة في معدلات الإنتاج, مما يؤدي لارتفاع معدل التضخم وما يستتبعه ذلك من زيادة الأسعار بشكل سريع. غياب الرقابة علي الأسعار ويري الدكتور رشاد عبده أن وجود التضخم بمعدلات بسيطة لا تتجاوز1% سنويا يعد دليلا علي حالة من الرواج الاقتصادي, كما أن التضخم يخفض من قيمة العملة, وبالتالي يساعد علي تنشيطالصادرات, بينما يحدث العكس في مصر لارتفاع معدلات التضخم بصورة مخيفة, واتجاه أصحاب رءوس الأموال إلي الاستيراد بدلا من التصنيع والإنتاج, لتحقيق ربح سريع في ظل غياب الرقابة علي الأسعار. ويجزم بأن رفع الحد الأدني للأجور سيؤدي إلي زيادة تكلفة الأيدي العاملة دون التأكد من زيادة معدلات الإنتاج, الأمر الذي سيترتب عليه ارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق, سيؤدي إلي زيادة عجز الموازنة, وبالتالي إحجام المستثمرين الأجانب عن دخول السوق المصرية, بخلاف تآكل قيمة الأجور مجددا نتيجة ارتفاع الأسعار. ويشير إلي أن ارتفاع قيمة العلاوة التي أقرتها الحكومة في عام2008 حتي بلغت30 % تسبب في عجز الحكومة عن تدبير الاعتمادات المالية اللازمة لتوفير هذه العلاوة حتي لجأت الحكومة إلي خفض دعم الطاقة بما يعادل10 % مما تسبب في ارتفاع تكلفة الإنتاج, ورفع الأسعار بشكل كبير حتي وصل معدل التضخم إلي24 %. وينبه إلي أن العديد من دول العالم تلزم التجار والمنتجين بحد أقصي لهامش الربح لا يتعدي25 % في كل الأحوال, دون أن يتعارض ذلك مع ضوابط اقتصاد السوق الحر, مؤكدا أن غياب الرقابة الحكومية علي الأسعار, و تراجع معدلات الإنتاج المحلي, وغياب المنافسة دفعت السوق المصري إلي التحول من الاقتصاد الحر إلي ما يسمي احتكار القلة. ويشدد علي ضرورة تدخل الحكومة لتوفير السلع التي تهم غالبية الشعب المصري بسعر مخفض مع تحقيق هامش ربح بسيط يجبر القطاع الخاص علي الدخول في منافسة مع الحكومة تصب في صالح المستهلك, مؤكدا أن الدولة في النظام الرأسمالي تتمتع بثلاثة أدوار رئيسية هي: تنظيم المنظومة الاقتصادية, و فرض الرقابة علي الأسواق, وتحقيق نوع من المنافسة, وإلا استمر الفساد والاستغلال وجشع التجار. ويري أن إحجام الحكومات المتعاقبة عن وضع ضوابط للقطاع الخاص وتعاملها معه علي أنه يلعب دورا مساعدا في توفير فرص العمل ورفع معدلات النمو الاقتصادي دفع البعض إلي التلاعب بالأسعار دون اعتبار للتشريعات والقوانين التي تجرم الممارسات الاحتكارية. ويطالب الحكومة بفرض الرقابة علي الأسواق والقضاء علي ظاهرة السوق السوداء بمختلف صورها, والدخول في منافسة مع القطاع الخاص عبر المجمعات الاستهلاكية, وإصدار تشريعات مغلظة لمكافحة الفساد والاحتكار, وفرض حد أقصي لهامش الربح, وتشجيع الإنتاج المحلي كبديل عن الاستيراد للتخلص من أزمة نقص العملة الأجنبية, كما يطالب البنك المركزي بالتدخل والقيام بدوره الرئيسي في الحد من معدلات التضخم لإجبار البنوك علي زيادة الاحتياطي النقدي. اختلال الميزان التجاري ويرجع الخبير الاقتصادي الدكتور صلاح جودة ارتفاع معدلات التضخم إلي الاختلال الرهيب في الميزان التجاري, مؤكدا أن واردات مصر تعادل3 أضعاف صادراتها, حيث بلغت فاتورة الاستيراد للعام الماضي60 مليار دولار وفقا للإحصائيات الرسمية, و72 مليار دولار طبقا للإحصائيات غير الرسمية, بينما استقرت الصادرات عند23 مليار دولار فقط. ويؤكد أن الاعتماد الكلي علي الاستيراد للوفاء باحتياجات الشعب من السلع الاستهلاكيةسيؤدي ارتفاع قيمة صرف الدولار ولو بشكل طفيف,لارتفاع معدل التضخم, وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل مباشر. ويشير إلي أن السياسة النقدية للبنك المركزي خلال العام الماضي دفعته إلي ضخ عملات أجنبية بشكل دوري في السوق لضبط سعر صرف الدولار حتي بلغت عطاءات البنك المركزي قرابة ال20 مليار دولار تمثل جزءا كبيرا من الاحتياطي النقدي, بينما استمرت جماعة الإخوان في السيطرة علي شركات الصرافة حتي استحوذت علي70 % منها, وتمكنت من التلاعب في سعر صرف الدولار عبر السوق السوداء حتي وصل إلي ثمانية جنيهات و20 قرشا لكل دولار في السوق السوداء, وبالتالي تضخمت قيمة فاتورة الواردات المصرية, مؤكدا أن الخروج من أزمة ارتفاع معدل التضخم وزيادة الأسعار يتمثل في زيادة الإنتاج, وفتح المصانع المتعثرة والمغلقة, وعودة حركة السياحة. السيطرة علي حركة الأسعار ويري الخبير الاقتصادي الدكتور علي ثابتأن مشكلة التضخم في مصر كبيرة ومعقدة, حيث تعتبر مصر من أعلي الدول من حيث تكلفة المعيشة, علي حد تعبيره. ويؤكد أن مصر هي أكثر دولة قادرة علي كبح جماح معدلات التضخم, و تحسين مستوي معيشة المواطنين دون اتخاذ إجراءات ترهق خزينة الدولة, أو تؤثر علي القطاع الخاص, ويقول: إن الحل يمكن في السيطرة علي حركة الأسعار, بدخول الدولة كمنافس للقطاع الخاص, وتحديدا في نطاق السلع الاستراتيجية. ويشير إلي أنه رغم سياسات الانفتاح الاقتصادي فإن السوق حتي الآن مغلقة, وليست حرة, نتيجة لتحكم مجموعة من المستوردين في الأسعار, وسط غياب الرقابة الحكومية, مضيفا أن الدولة عندما وفرت السكر في المجمعات الاستهلاكية تراجعت أسعاره بما يعادل30%, كما أن الدولة حينما فرضت رسم صادر علي الأسمنت منذ عامين تراجع سعر الطن من800 جنيه إلي490 جنيها, ولم تحقق مصانع الأسمنت أي خسائر رغم هذا الانخفاض. وينبه إلي أن الوسيلة الوحيدة لخفض معدلات التضخم, وتحسين مستوي معيشة المواطن تكمن في دخول الدولة في منافسة مع المستوردين لضبط الأسعار, وتحسين القوة الشرائية للجنية المصري, مطالبا بضرورة فرض رسم صادر علي الصادرات الغذائية, خاصة أن ارتفاع أسعار الخضراوات والفاكهة يرجع إلي تصدير أغلب الإنتاج إلي الخارج دون توفير مخزون كاف من السلع داخل البلاد. ويقول: إن الحديد التركي يصل إلي السوق المصرية بسعر أقل من نظيره المحلي, بينما تتخاذل الحكومة عن مساءلة مصانع الأسمنت وحديد التسليح المصرية عن سبب ارتفاع الأسعار, بل وتفرض رسم وارد علي الحديد التركي بدعوي حماية المنتج الوطني, وهو إدعاء غير منطقي, لأن انضباط السوق ومصلحة المستهلك يحتمان الاحتكام إلي معيار المنافسة, موضحا أن الدولة تمنح رجال الأعمال مزايا لا تمنحها للفقراء رغم وجود العديد من الممارسات الاحتكارية. ويحذر من تآكل قيمة الحد الأدني للأجور بدون اتخاذ إجراءات سريعة لضبط التضخم, خاصة أن المشكلة لا تتعلق برقم الأجر, وإنما قيمته الشرائية, ويتساءل: ما موقف الحكومة من عديمي الدخل والعاطلين عن العمل في حالة ارتفاع التضخم بعد صرف الحد الأدني للأجور؟, ويؤكد أن موقفهم سيزيد صعوبة خاصة أنهم شريحة كبيرة من المجتمع لا يمكن تجاهلها.