في عام1977 دعتني جمعية بحوث الفلسفة الاسلامية والعلم الإسلامي للمشاركة في مؤتمرها الدولي بسان فرنسسكو بأمريكا, وكان عنوان بحثي ابن رشد والتنوير. وإثر الانتهاء من قراءة البحث أبدي رئيس المؤتمر والأستاذ بجامعة هارفارد محسن مهدي ملاحظة ذات دلالة وهي أنه ليس ثمة دراسات في مستوي الماجستير أو الدكتوراه عن ابن رشد في القرن الثالث عشر الأمر الذي أفضي إلي نوع من التعتيم علي هذه الفترة الزمانية المهمة في تاريخ الحضارة الانسانية. وإثر انتهاء تعليق محسن مهدي ورد إلي ذهني هذا السؤال: لماذا التعتيم علي القرن الثالث عشر في أوروبا؟ وجاء جوابي في عام1978 في المؤتمر الفلسفي الدولي الثاني الذي عقدته بالقاهرة تحت عنوان الاسلام والحضارة. كان عنوان بحثي مفارقة ابن رشد. فكرته المحورية أن ابن رشد حي في الغرب ميت في الشرق. وسبب هذه المفارقة مردودة إلي تكفير ابن رشد وحرق كتبه في العالم الإسلامي ونشأة تيار الرشدية اللاتينية في العالم الغربي والتي مهدت لبزوغ الاصلاح الديني في القرن السادس عشر والتنوير في القرن الثامن عشر. حدث كل ذلك علي الرغم من اضطهاد السلطة الدينية لذلك التيار, إذ أدانه أسقف باريس في1270 كما أدانه الأسقف نفسه في عام1277, هذا بالإضافة إلي النقد الهدام لابن رشد والرشدية اللاتينية من قبل ثلاثة من كبار فلاسفة العصر الوسيط: البرت الأكبر وتوما الأكويني وريمون لول. وفي عام1994 عقدت الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية مؤتمرا دوليا بالقاهرة تحت عنوان ابن رشد والتنوير. واللافت للانتباه في ذلك المؤتمر أن ثمة بحثين أحدهما لمستشرق هولندي اسمه شتيفان فيلد والأخر لمستشرق بلجيكي اسمه جيرارفيربيكه. قال الأول إن أجوبة ابن رشد ليست ملائمة لنا اليوم لأن ابن رشد هو ابن عصره وليس ابن عصرنا. وخطأ فيلد يكمن في أنه لم يكن علي وعي بأن العالم الإسلامي محكوم حتي اليوم بابن تيميه الفقيه من القرن الثالث عشر والذي كفر ابن رشد بسبب قوله بإعمال العقل في النص الديني, والذي يعتبر مؤسس الوهابية في القرن الثامن عشر ومؤسس جماعة الاخوان المسلمين في القرن العشرين. أما الثاني وهو فيربيكه فقد قال إن ابن رشد لا ينتمي إلي عقل العالم الإسلامي بل إلي عقل العالم الغربي. ومع ذلك توالت الندوات والمؤتمرات التي عقدت في العالم الإسلامي بعد مؤتمر القاهرة. أقول ذلك كله تمهيدا لما حدث في عام1999 عندما انعقد لأول مرة مؤتمرا دوليا بجامعة ليون تحت عنوان ابن رشد والرشدية من القرن الثاني عشر إلي القرن الخامس عشر. وفي ذلك المؤتمر أشير إلي رأيي في فلسفة ابن رشد وفي إثارة التساؤل عما اذا كانت الدول النامية في حاجة إلي ابن رشد, وإلي أي مدي يكون ابن رشد قادرا علي توليد التنوير في تلك الدول. وفي عام2000, أي في نهاية القرن العشرين تسلمت خطابا من الفيلسوف الكندي فنانت كوشي والذي كان رئيسا سابقا للاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية ينبئني فيه بأنه يزمع عقد مؤتمر عالمي في عام2000 تحت عنوان التعايش البشري في عالم مسئول ومتعاون مع بداية القرن الواحد والعشرين ويطلب مني تحديد المشكلات التي أراها ملتهبة في منطقة الشرق الأوسط مع بيان الحلول التي تبدو أنها علي درجة عالية من الأهمية والتي تسهم في تأسيس علاقات أفضل بين البشر والأمم والقارات. استجبت ببحث عنوانه ابن رشد هنا والآن. وقصدت بلفظ هنا العالم الإسلامي, وقصدت بلفظ ز الآنس القرن العشرين, وبذلك تكون لدينا صياغة أخري للعنوان وهي مكانة ابن رشد في العالم الإسلامي في العصر الحديث ويكون السؤال المترتب علي ذلك العنوان هو علي النحو الآتي: لماذا ابن رشد بالذات ولماذا لم اختر فيلسوفا آخر غيره من تاريخ الفكر الإسلامي؟ جوابي هو علي النحو الآتي: إن العالم الإسلامي قد تجمد عند القرن الثالث عشر عندما اكتفي بابن تيميه المكفر لابن رشد والقائل بأن تأويل النص الديني بحسب فهم ابن رشد هو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ومن هنا فأنا أوثر ابن رشد في مواجهة الأصولية الاسلامية التي تسللت إلي جميع مؤسسات الدولة في العالم الإسلامي بقيادة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين. وفكر ابن رشد قادر علي هذه المواجهة بفضل ما لديه من فكرتين: التأويل باعتباره كاشفا عن المعني الباطن للنص الديني لكي يتفق مع مقتضيات العقل الإنساني. واقصاء علماء الكلام الذين يلتزمون حرفية النص الديني من أجل تأسيس العقل الأصولي. لمزيد من مقالات مراد وهبة