قبل نحو خمسين عاما أو يزيد, كان التنافس في قري مصر ونجوعها وعزبها شديدا بين مختلف الأسر والعائلات, أيها يفوز بإلحاق ابنه بالأزهر الشريف, لتحظي بشرف أن يكون من بينها عالم وداعية.. قال تعالي: ومن أحسن قولا ممن دعا إلي الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين. كان العاملون بالمعاهد الأزهرية وقرناؤهم بمدارس التربية والتعليم يطوفون القري في زيارات للأهالي في بيوتهم يجمعون خلالها شهادات ميلاد الأطفال في سن بين الخامسة والسادسة, ليلحقوهم بالأزهر الشريف أو المدارس. ولم يكن هذا يمنع التقاء الفريقين الملتحقين بالأزهر والمقيدين بمدارس التعليم العام في كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم بالقرية, فالكتاب عند أولياء الأمور جميعا أساس تربوي لا يمكن تجاوزه, وأصل لا يجوز التفريط فيه, لضمان البناء العلمي السليم للناشئة في مختلف التخصصات. أما شيوخ الكتاتيب فقد كانوا رموزا للتنشئة الصالحة, وكان حزم الواحد منهم عند الآباء والأمهات سبيلا إلي تحقيق المستقبل الأفضل للأبناء من الجنسين, فالكتاتيب لم تكن مقصورة علي الذكور دون الإناث. وهذا ما يفسر وجود أطباء ومهندسين ومعلمين كبار حافظين للقرآن الكريم عن ظهر قلب, ويجيدون التحدث باللغة العربية الفصحي, دون أن يكونوا من خريجي كليات ومعاهد الأزهر الشريف, وهي ظاهرة مصرية قديمة. ولأسباب معلومة وأخري غامضة أتي علي الكتاتيب حين من الدهر لم تكن تحتل مكانتها, أو تمارس دورها.. تحالفت عليها الظروف, واجتمعت ضدها الأسباب, ونجحت في أن تحول اهتمامات أولياء الأمور إلي أشكال حديثة من التعليم قبل الابتدائي برز معها الاهتمام باللغات الأجنبية, وعالم الحاسبات في الصغر, لتتواري الكتاتيب, وتفقد أبناءها رويدا رويدا, لتبدأ منابع التعليم الأزهري في الجفاف. واضطر الأزهر في مواجهة قلة أعداد الملتحقين به إلي فتح أبواب معاهده أمام غير المتفوقين من حملة الاعدادية العامة الذين لم يجدوا فرصا بالتعليم الثانوي العام.. وهكذا لم يعد مطلوبا شرط حفظ القرآن الكريم, الأمر الذي انتهي بعد سنوات بضعف ملحوظ في مستوي بعض الخريجين, وكان ذلك بارزا في رسوب الآلاف من خريجي الكليات الدعوية في مسابقات وزارة الأوقاف لاختيار الأئمة الجدد, بسبب عدم حفظ القرآن الكريم, أو حتي إجادة اللغة العربية. تذكرت هذه الحقائق وأنا أشاهد صورة لأكثر من عشرين داعية يصطفون بالجامع الأزهر الشريف حاملين لافتة نشرها الأهرام أمس مكتوبا عليها آية قرآنية كريمة تتضمن خطأ واضحا, فبدلا من أن تكون الآية وأن المساجد لله.. جاءت علي اللافتة وإنما المساجد لله. تذكرت الكتاب الذي حفظت فيه القرآن الكريم صغيرا.. وتذكرت الفلكة التي عوقبت بها في طفولتي علي اهمالي في حفظ القرآن. وتذكرت شيوخي بالمعاهد الأزهرية الذين كانوا يقرعوننا ويوبخوننا, وهم يصيحون فينا إلا القرآن الكريم. ولأنه القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل أبدا, فقد كان واجبا مواجهة ذلك الاهمال في التعامل معه, وقد سارع الأهرام إلي ذلك, خاصة أن الخطأ جاء من أناس أهم صفاتهم أنهم حملة القرآن. توقعت اعتذارا شجاعا من المتسببين في ذلك الخطأ, لنقول لهم شكرا علي شجاعتكم, انطلاقا من حسن فهمنا لقول الرسول صلي الله عليه وسلم: خير الخطائين التوابون.. ولكن ذلك لم يحدث. أما المفجع والمدهش والكارثي في الوقت نفسه فهو أن تجد بين كبار قيادات العمل الدعوي من يتعامل مع القضية دون مبالاة. اتصل أحدهم بالأهرام من مديرية أوقاف الدقهلية لا ليعتذر أو يبدي حزنا أو أسفا, أو يطرح علاجا لعدم تكرار الخطأ, وإنما ليقول: وإيه يعني غلطة في القرآن؟, وواصل كلامه قائلا: نحن لن نعتذر, بل اعتذروا أنتم, ولا ندري عن أي شيء نعتذر.. عن غيرتنا علي كتاب الله؟. فهل هذا هو رد قيادات الدعوة الإسلامية علي هذا الخطأ الذي لا يجوز أن يصدر عن دعاة؟ وهل يصلح صاحب شعار وإيه يعني ليقود أي عمل دعوي؟ أم أنه مازال في حاجة إلي العودة إلي الكتاب عسي أن يجد من يعلقه في الفلكة من جديد؟ الأمر متروك للدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف.