حذر الشارع من تكفير المسلم المعين أو جماعة معينة من المسلمين في نصوص عدة, منها: ما روي عن النبي أنه قال: أيما امرؤ قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما, فإن كان كما قال وإلا رجعت إليه. ولبيان معني هذا, نقول: إن في الحديث تنفيرا شديدا من إصدار الأحكام علي عقائد الناس, لأن من أصدر علي مسلم حكما من خلال ما يعتقده فيه: بأنه كافر أو زنديق أو علماني أو نحو ذلك, فإنه يجب عليه أن يكون متيقنا أن هذا الحكم وقع موقعه من عقيدة الآخر, لأنه إن لم يكن المحكوم عليه بهذا المعتقد مستحقا وصفه به, فإن هذا الوصف يرتد للواصف ليوصف به هو, وكأنه بهذا وصف نفسه بما حكم به علي غيره, وهذا عظيم نفر منه الحديث, وقد وردت نصوص الشرع تبين حرمة تكفير المعين فردا كان أو جماعة, وإنما بينت أن من يفعل معصية معينة فهو ملعون أو مستحق للعذاب أو الغضب أو نحو ذلك, والمستعرض لهذه النصوص يقف علي ذلك, ومن ثم فإنها تفرض عدم إصدار حكم علي عقيدة معين ثبت انتماؤه إلي المسلمين. وتواترت أقوال السلف علي اختلاف عصورهم ومشاربهم وانتماءاتهم المذهبية والفكرية علي حرمة تكفير المعين, فقد أتي بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر إلي عمر, فقال له عمر: أريد أن أحدك, فقال قدامة: ليس لك ذلك, وتأول الآية: ليس علي الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا, فقال له عمر: أخطأت التأويل فأين بقية الآية, فإنك إن اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك, وأمر به فجلد الحد. ورغم استحلاله شرب الخمر متأولا, إلا أن عمر لم يكفره, وعلي هذا النحو كان سلف الأمة. فقد روي أن أهل النهروان لما استحلوا دم عبد الله بن خباب طلب منهم علي القود, فقالوا: كلنا قتله, فاستحل قتالهم, لإقرارهم علي أنفسهم بما يوجب قتلهم, ولما سئل عنهم أكفار هم ؟, قال: بل من الكفر فروا, قيل: فمنافقون ؟, قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا, قيل: فما هم ؟, قال: هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا, وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم. وذلك كان منهج السلف تعلموه من رسول الله, ولذا فلم تذكر كتب السير أن أحدا منهم كفر أحدا أو حكم علي عقيدته, وينبغي الأخذ في الاعتبار أن من الناس من يجهل الأمور التي تتعلق بالعقائد, والتي قد يترتب عليه خروجه من الملة, ولذا فإن من الواجب ديانة علي من راقب حال أحد صدر منه ما يقتضي تكفيره, أن يبين له وجه الحق فيما يعتقد وأن يسأل الله له الهداية والسداد, لا أن يصدر حكمه عليه ويتولي في الوقت نفسه تنفيذه, فليس يفترض أن يكون كل معتنق للإسلام عالما بدقائق أحكامه العقدية والشرعية, ولذا فإن التماس العذر للناس فيما يجهلون مطلب شرعي, وهو نهج سلف الأمة, قال ابن تيمية: لا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار, لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع, فقد لا يكون التحريم بلغه.. وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق, وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها, وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها, فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان.. هذا الذي عليه الصحابة وجماهير أئمة الإسلام, ومن المتفق عليه بين العلماء حرمة إهدار دم من دخل في الملة, لقول النبي: أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا: لا إله إلا الله, فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم علي الله, وهذا يقتضي أن من دخل الإسلام صار معصوم الدم والمال والعرض, فلا يحل الاعتداء عليه, وإذا كان الأصل هو حرمة دماء وأموال من ثبتت عصمته بالإسلام أو بالإقامة في دار الإسلام, فإن استحلال سفك دم من ثبتت عصمته أو إتلاف أمواله بغير حق, يخرج فاعله من الملة, بحسبانه يستحل ما ثبتت حرمته بأدلة قطعية الثبوت والدلالة, فإقدامه علي ذلك دون حق أو تأويل يخرجه عن الملة, لأنه بهذا ينكر معلوما حرمته من الدين بالضرورة,كما ينكر النصوص الشرعية قطعية الثبوت والدلالة الدالة علي هذه الحرمة. أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة لمزيد من مقالات د. عبد الفتاح إدريس