بعيدا عن بعض المباديء الإعلامية التي نقوم بتدريسها لطلابنا في كليات الإعلام, والمتعلقة بحياد الإعلام وموضوعيته وبالتوازن الذي يجب أن يكون موجودا في تغطيته للأحداث المختلفة وهي المباديء التي لا تجد لها تطبيقا إلا في جمهورية أفلاطون.. بعيدا عن هذه المباديء النظرية السامية يصبح السؤال المتعلق بكيفية فهم وسائل الإعلام بسيطا للغاية, لأن إجابته تكون نفهم تغطية وسائل الإعلام من خلال فهم مصالح مموليها, فمن يدفع للزمار أجرته يحدد له اللحن!, وليست وسائل الإعلام الأمريكية وتغطيتها للأحداث ببعيدة عن هذا. وبشكل عام, فمن يريد أن يفهم تغطية وسائل الإعلام الأمريكية للأحداث لابد أن يفهم انتماءاتها السياسية والأيديولوجية, وهي الانتماءات المرتبطة بمصالح ملاك هذه الوسائل وبمموليها وبمديريها.. وبصفة عامة, فإن وسائل الإعلام الأمريكية تنقسم من حيث الارتباطات الأيديولوجية إلي مجموعتين: الأولي تطلق عليها الوسائل ذات الانتماءات الليبرالية, وبالتالي المرتبطة في مصالحها وتوجهاتها بالحزب الديمقراطي, والثانية تطلق عليها الوسائل ذات الانتماءات المحافظة اليمينية, وبالتالي المرتبطة في مصالحها وتوجهاتها بالحزب الجمهوري, وبين هذين المجموعتين توجد توزيعات فرعية عديدة لكنها ليست مؤثرة بشكل عام. وتعتبر قناةCNN الإخبارية أحد أبرز القنوات التي تميل بشدة نحو الليبرالية, ومن ثم تتبني سياسات الحزب الديمقراطي وتدافع عنها, ويرتبط ملاك هذه القنوات تيد ترنر, أو مديروها, مثل مديرها السابق ريك كابلان, بعلاقات صداقة قوية مع أقطاب الحزب الديمقراطي.. وقد بلغ هذا التداخل في المصالح بين القناة والحزب أثناء حكم بيل كلينتون حدا بلغ إلي أن قام البعض بتغير اسم القناة, علي سبيل الفكاهة, منCableNewsNetwork, إليClintonNewsNetwork, تعبيرا عن انحيازها لكل ما تصدره إدارة كلينتون من سياسات.. الأمر نفسه, يحدث في السياسات المتعلقة بأوباما, حيث تجد القناة علي طول الخط مدافعة عنها ومتبنية لها. والحديث عن موضوعية قناةCNN وحياديتها مثل الحديث عن العنقاء يدخل في إطار المستحيلات, ففي دراسة أجرتها جامعة هارفارد بالتعاون مع مشروع الجودة في الصحافة(2008) أشارت نتائج الدراسة إلي أن التغطية الإخبارية للقناة تتسم بالانحياز وعدم الموضوعية, وبأن خبرين من كل ثلاثة أخبار تذيعها القناة يحتوي علي تحيز فاضح.. ولم يتردد توني سنو المتحدث باسم البيت الأبيض في ولاية جورج بوش الابن من اتهام القناة بالتحيز الواضح في تغطيتها لحرب العراق, وبأنها تحاول أن تخدع الجمهور الأمريكي. ولا تخفي قناةCNN تحيزاتها وتوجهاتها, ولذلك فلم تتردد في فصل كبيرة مراسلي الشرق الأوسط في البيت الأبيض لديها أوكتافيا نصر بعد25 سنة من العمل في هذه القناة, بسبب تويتة نشرتها أوكتافيا علي صفحتها الشخصية تنعي فيه وفاة أحد رجال الدين التابعين لحزب الله في لبنان.. الأمر نفسه تكرر عندما قامت القناة بفصل ريك سانشيز لسبب شبيه بذلك.. ولا يتردد العاملون بالقناة من إعلان تحيزاتهم, ومن ذلك وولف بليتزر الذي أعلن انحيازه التام للموقف الإسرائيلي في صراعها مع الفلسطينيين. علي الجانب الأخر, تعتبر قناةFoxNews هي الوجه الآخر لوسائل الإعلام الأمريكية بتحيزاتها الواضحة للتوجهات اليمينية المحافظة, وبتبنيها المستمر لسياسات الحزب الجمهوري.. ويرتبط مالكها روبرت ميردوخ بعلاقات واسعة مع الحزب الجمهوري, إلي الحد الذي أوكل فيه ميردوخ إلي أحد اقارب جورج بوش( الابن) برئاسة القسم الإخباري بالقناة أثناء تغطيتها للانتخابات الرئاسية والتي كان بوش طرفا فيها. وتشير الدراسات إلي أن العاملين في الحقل الإعلامي يعرفون هذا التحيز ويتعاملون معه علي أنه أمر واقع, ففي دراسة أجرتهاRasmuseenReports اشارت النتائج إلي أن العاملين بالقناة يعرفون انحيازاتها ويقبلون بها, ويتعاملون وفقا لها.. وفي دراسة أجراها مركز بيو للصحافة(2011), أشارت النتائج إلي اعتقاد الأمريكيين في التحيز الواضح للقناة للحزب الجمهوري.. وفي دراسة أخري, أشارت النتائج إلي أن68% من الأخبار التي يتم إذاعتها في قناةFox تحتوي علي رأي شخصي. وما ينطبق علي قناةCNN ينطبق علي قنوات وشبكات أخري مثلABC, وCBS, وNBC, وMSNBC, فهذه كلها قنوات ليبرالية ترتبط بالحزب الديمقراطي.. وما ينطبق علي قناةFox ينطبق أيضا علي قنوات وشبكات أخري مثلNewsMax, وWorldNetDaily, وغيرها, فهذه كلها قنوات ترتبط بالحزب الجمهوري. دلالة هذا التصنيف للقاريء هو أن يعرف كيف يفهم معارضة قناة معينة لسياسة رئيس معين.. فعلي سبيل المثال, انتشر في الأسبوعين الماضيين علي مواقع التواصل الاجتماعي بعض اللينكات التي عنوانها علي سبيل المثال عاجل: قناة أمريكية تفضح المخطط الأمريكي لضرب مصر, أو شاهد قبل الحذف: الكونجرس سيعزل أوباما بسبب موقفه من مصر.. هذه الأخبار وغيرها الصادرة في الغالب عن قنوات تنتمي للحزب الجمهوري( المعارض حاليا) لا تعني في الحقيقة أي شيء, ولا تمثل أي شيء للداخل الأمريكي وللمواطن الأمريكي الذي اعتاد علي الدعاية السوداء, وعلي التغطية المتحيزة لوسائل إعلامه.. ولذلك فهو يعرف أن هذه الأخبار صادرة عن قنوات لها تصنيفها, ولها مصالحها الخاصة, ولا تعبر عن الحقيقة المجردة.. وهو ما يجب أن يلتفت إليه المشاهد أو القاريء المصري, فقبل أن نفرح لخبر, أو نحزن لآخر, لابد من معرفة تصنيف القناة وميول أصحابها, ومصالح مموليها, حتي نفهم أهدافها. وعذرا لطلاب الإعلام, الذين عندما نحدثهم عن موضوعية الإعلام وتوازن التغطية الإخبارية وحيادية القائم بالاتصال نحدثهم عن أشياء غير موجودة حتي في أفلام الخيال العلمي. لمزيد من مقالات د. سامى عبدالعزيز