حين كنت في مطلع الصبا, مفتونا بالشعر والشعراء, كان أحمد عبد المعطي حجازي يسكن غرفتي. يسكنها بصوته الشعري الرخيم. وكان ديواناه مدينة بلا قلب ولم يبق إلا الاعتراف يشكلان وجداني. مع دواوين أخري لمحمود درويش وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل( كنت أكتب الفصحي في ذلك الوقت, دون أن أنسي قراءة العامية). وصدر ديوان حجازي الثالث مرثية للعمر الجميل في أوائل السبعينيات وقد استولي أمل دنقل علي لبي تماما, لكن قصائد هذا الديوان العظيم سرقتني من سالبي, لأقرأ منتشيا القصيدة التي يحمل الديوان اسمها مرثية العمر الجميل, وكذلك القصيدة التي ستطالعها بعد قليل يا قارئي العزيز مرثية لاعب سيرك, فكأن الديوان وكاتبه دخلا زمن المراثي, وربما الوطن والحلم والصبا والشعر نفسه. وحين حصل حجازي علي جائزة النيل تقول البعض: إنه لم يكتب شيئا منذ عقود وشعره الأخير لا يستحق. أقول لهم هو شاعر قلما يجود الزمان بمثله, والجوائز تمنح لمجمل العطاء الشعري, وإنجاز حجازي الشعري يستحق أكثر مما نال. وسيد حجاب هو الآخر من الذين شكلوا وجداني وذائقتي في مرحلة الصبا المبكر بديوانه صياد وجنية, وما زالت أبيات من ذلك الديوان تتردد في ذاكرتي: الشمس طلت.. جسمي أخضر زرعي دمي نبيتي.. شعري زهر سماوي يا حبيبتي طلي واقطفي ورداية قلبي قفص مفتوح في شباك ضلعي والتوت مغطيني بميت ورقاية وتحية له لحصوله علي التقديرية ننشر له من ذلك الديوان القصيدة التي حملت اسمه وتفوح منها رائحة شمال الدلتا حيث المطرية القريبة من البحر مسقط رأس الشاعر. مرثية لاعب سيرك شعر: أحمد عبدالمعطي حجازيفي العالم المملوء أخطاء مطالب وحدك ألا تخطئا لأن جسمك النحيل لو مرة أسرع أو أبطأ هوي, وغطي الأرض أشلاء في أي ليلة تري يقبع ذلك الخطأ في هذه الليلة! أو في غيرها من الليال حين يغيض في مصابيح المكان نورها وتنطفئ ويسحب الناس صياحهم علي مقدمك المفروش أضواء حين تلوح مثل فارس يجيل الطرف في مدينته مودعا. يطلب وجد الناس, في صمت نبيل ثم تسير نحو أول الحبال مستقيما مومئا وهم يدقون علي إيقاع خطوك الطبول ويملأون الملعب الواسع ضوضاء ثم يقولون: ابتدئ في أي ليلة تري يقبع ذلك الخطأ *** حين يصير الجسم نهب الخوف والمغامره وتصبح الأقدام والأذرع أحياء تمتد وحدها وتستعيد من قاع المنون نفسها كأن حيات تلوت قططا توحشت, سوداء بيضاء تعاركت وافترقت علي محيط الدائره وأنت تبدي فنك المرعب آلاء وآلاء تستوقف الناس أمام اللحظة المدمره وأنت في منازل الموت تلج عابثا مجترئا وأنت تفلت الحبال للحبال تركت ملجأ, وما أدركت بعد ملجأ فيجمد الرعب علي الوجوه لذة, وإشفاقا وإصغاء حتي تعود مستقرا هادئا ترفع كفيك علي رأس الملأ في أي ليلة تري يقبع ذلك الخطأ ممددا تحتك في الظلمة يجتر انتظاره الثقيل كأنه الوحش الخرافي الذي ما روضت كف بشر فهو جميل كأنه الطاووس جذاب كأفعي ورشيق كالنمر وهو جليل كالأسد الهادئ ساعة الخطر وهو مخاتل, فيبدو نائما بينا يعد نفسه لوثبة مستعره وهو خفي لا يري لكنه تحتك يعلك الحجر منتظرا سقطتك المنتظره في لحظة تغفل فيها عن حساب الخطو أو تفقد فيها حكمة المبادره إذ تعرض الذكري تغطي عريها المفاجئا وحيدة معتذره أو يقف الزهو علي رأسك طيرا شاربا ممتلئا منتشيا بالصمت, مذهولا عن الأرجوحة المنحدره حين تدور الدائره تنبض تحتك الحبال مثلما أنبض رام وتره تنغرس الصرخة في الليل كما طوح لص خنجره حين تدور الدائره يرتبك الضوء علي الجسم المهيض المرتطم علي الذراع المتهدل الكسير والقدم وتبتسم كأنما عرفت أشياء وصدقت النبأ صياد وجنية شعر: سيد حجاب مين دي اللي ماشيه ع الشطوط بتنوح؟! مين دي يارجاله؟! أم الشعور محلولة لكعوبها أم القدم حافية.. وعمالة ينقل تراب الشط ديل توبها مين دي؟! أهيه قربت.. اها.!! أيوه عرفتك آه.. يا جنية صياد أنا والبحر يعرفني مهما يصرخ لم يخوفني عارفه.. دا ابويا وخطوته في الخير ومرجوعه ليا.. بايد حنيه ويطبطب علي قلوعي مرجوع أبويا ليا وانا لابا مرجوعي صياد انا صياد انا والبحر في ضلوعي والموجه ناي في الليل يونسني وناس يا ناي الموج.. يا أناته سمعني عن بحري.. غني لي حكاياته -الشاب حب.. وخاوي جنية طرح الشباك بالليل.. طلعت له بعيون ملالية بجفون هلالية بكفوف محنية رقصت علي فلوكه وغنت له دندن بمجدافه علي الميه شاف النجوم.. لعنيه مطاطية في البحر مدت يد.. وادت له بالقلب ودت له بالشفة مدت له الخير بايدها الحلوة وادت له شدت له من خير القرار ياما لكن ياعين.. الدنيا دوامة ما تدومش لكن دايره دوامة حساده عرفوا قصته تبعوه طلعوا له نص الليل عفاريت ليل زي السواحلية هدومهم سود سودا هدومهم.. والقلوب سودا وعيون بنادقهم كما قلب الحسود سودا صابوه عداه.. خرم الرصاص ضهره عين القمر بالغيمة مسدودة جنيته ف حضنه وجروحه في ظهره الدم آهه حمرا ممدوده الدم سال.. الشاب عمره سال جنيته تقفل جروحه بحبها.. بالشال وجروحه في ضهره بتشر عمر لحد ما طول العذاب قهره وف نني عينه كلمة ما بتنقال عشانكم انتم يا حبايبي أمو.. وبقيت حروف الكلمة يتقطموا جنيته فرشت شعورها طوال ع الجته.. واترجت إله البحر.. صلت له علشان تموت مثله علشان يعود الشاب للدنيا علشانكم انتم يا حبايبي أموت جنية البحر الغريق صلت سنة.. ولا كلت والجتة متغطية بشعورها وبدموعها وصفار الموت سنة.. وآخرتها خدته بلادها ونيمت جسده فوق مرتبتها.. فوق مخدتها وخدت دراعه لاهله في بلده قالت لهم ( حطوا دراع الشاب فوق الباب لحل الندوله يعملوا له حساب) من يومها.. والجنية ماشية ع الشطوط بتنوح ماشيه بشعور محلوله لكعوبها ماشيه بقدم حافية وعماله ينقل تراب الشط ديل توبها تسمع حكاوي البحر وتشوفها وتروح تقولها ليلاتي لحبيبها وحبيبها نايم.. في سريرها قتيل وسمعتهم بيقولوا في بلدنا دي مخلفه منه رجاله بعددنا