في الوقت الذي تبدو فيه الولاياتالمتحدة ومن خلفها الغرب مهووسة علي نحو مرضي بإلصاق تهمة الانقلاب العسكري علي الثورة الشعبية التي قام بها المصريين في30 يونيو, تخرج وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية منذ أيام قليلة لتعترف رسميا وللمرة الأولي وبالوثائق, بالحقيقة التي يعرفها الجميع يقينا, أن الانقلاب العسكري, الذي أطاح بمحمد مصدق رئيس الوزراء الإيراني وحكومته, منذ ستين عاما, كان عملية امريكية من البداية الي النهاية, وكأنها تود أن تقول وفي هذا التوقيت, أن الانقلابات ليست بالضرورة شرا مطلق, لكنها فقط تكون طيبة ومشروعة, عندما تنفذها الولاياتالمتحدة, لتقلب تاريخ ومسار الدول رأسا علي عقب, تلعن أي تدخل عسكري أو شبه عسكري حتي لو جاء لحفظ دماء الشعب, في حين أنها تبارك وفق منطق المعايير المزدوجة العديد من الانقلابات التي اشرفت عليها في جميع انحاء العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين. قبل ستين عاما تعرضت ايران لما قلب تاريخها السياسي الحديث رأسا علي عقب, كان هذا عندما تمت الاطاحة بحكومة رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطيا, محمد مصدق, عقب انقلاب عسكري حقيقي, ظلت اصداؤه تتصاعد علي مر السنين وتلقي بظلالها علي مسار الشعب الإيراني, الذي عرف منذ اللحظة الأولي تدخل الولاياتالمتحدة في الاطاحة برئيس حكومته المحبوب. رغم هذا اليقين لدي الجميع, لم يخرج من المجتمع الإستخباراتي الأمريكي, ما يؤكد ولو لمرة واحدة انه كان ضالعا في هذا الانقلاب, لقد استغرق الأمر ستون عاما حتي تعترف وكالة الاستخبارات المركزية بدورها, وذلك عندما نشرت للمرة الأولي منذ أيام قليلة علي موقع أرشيف الأمن القومي الإلكتروني, الوثائق التي تفيد دعمها لهذا الانقلاب, وذلك وفق قانون حرية المعلومات, والوثائق عبارة عن مقتطفات موجزة من تقرير أسمته معركة ايران, وهو تقرير داخلي كان قد اعد في منتصف السبعينيات. كان قد تم الافراج عن الوثيقة للمرة الاولي في عام1981, لكن ظلت أجزاء كبيرة منها سرية, وخاصة الجزء الثالث منها, وهو تحت عنوان العمل السري, وهو الجزء الذي يصف الانقلاب نفسه, وما زال الكثير من التفاصيل التي وردت في هذا الجزء سرية حتي الآن, علي الرغم من اعتراف الوكالة رسميا وبشكل علني بدورها في الانقلاب, وقد جاء في الأجزاء التي أفرج عنها من معلومات ما يلي: الانقلاب العسكري الذي اطاح بمصدق وحكومته التي كانت تحمل اسم الجبهة الوطنية, نفذ بتوجيه من السي اي ايه, باعتباره عمل من أعمال السياسة الخارجية الأمريكية, حتي لا تترك إيران عرضة للعدوان السوفيتي ويضيف التقرير مما اجبر الولاياتالمتحدة علي التخطيط وتنفيذ العمليةTPAJAX, في عام1953, وهو الاسم السري لمؤامرة وكالة الاستخبارات المركزية للاطاحة بمصدق وحكومته, وقد تضمنت تلك العملية عدة خطوات كان من بينها, استخدام الدعاية السلبية لتقويض شعبية مصدق سياسيا, دفع الشاه للتعاون مع قادة الانقلاب العسكريين, رشوة اعضاء في البرلمان ممن أطلق عليهم الأصدقاء القدامي, وأيضا رشوة اعضاء في قوات الامن وتسليحهم, والدفع نحو حشد مظاهرات شعبية, كان ذلك بعد ما يقرب من عامين علي تولي مصدق رئاسة الوزراء, وقتها لاحظت واشنطن قيام الرجل بتحدي سلطات الشاه, وأغضبها قراره بتأميم صناعة النفط الإيرانية, التي كانت تعمل تحت قيادة الشركات البريطانية والأمريكية, الانقلاب العسكري اجبر مصدق في النهاية علي التخلي عن منصبه ووضعه رهن الإقامة الجبرية حتي نهاية حياته. يظل التوقيت الذي اختارته الوكالة لنشر اعتراف رسمي بدورها فيما حدث في ايران1953, غير واضح الأسباب, تماما كما كانت الأسباب التي جعلتها تصر علي ابقائه غير معلن طوال العقود الماضية, في الوقت الذي كتب فيه عملاء الوكالة, وعملاء الاستخبارات البريطانية عشرات الكتب والمقالات حول العملية, ولاسيما كيرميت روزفلت, رئيس الوكالة وقتها والمشرف علي الانقلاب, بل وايضا مع اعتراف رئيسين أمريكيين هما كلينتون واوباما, علنا بدور الولاياتالمتحدة فيه. ومن بين ابرز الانقلابات المؤكدة التي قامت بها وكالة الاستخبارات الامريكية, كان الانقلاب العسكري في غواتيمالا عام1954, عندما تمت الإطاحة بالرئيس جاكوبو اربينز, وهو الرجل الذي كانت قد ايدته ودعمته من قبل, الا انها سرعان ما قررت التخلي عنه عندما بدأ في تطبيق سلسلة من الإصلاحات الزراعية, مما هدد شركة الفاكهة المتحدة المملوكة للولايات المتحدة هناك, وسرعان ما دفعت الوكالة الجيش الغواتيمالي الذي كان قادته قد تم تدريبهم في الولاياتالمتحدة, واصبح منهم من يوصف بالاصدقاء القدامي للقيام بانقلاب علي أربينز اجبره علي الخروج من السلطة وسمحت ان يخلفه حكم المجلس العسكري, كانت التفاصيل السرية لهذا الانقلاب قد نشرت للمرة الاولي عام1999 وقد تضمنت التفاصيل تمويل المتمردين والقوات شبه العسكرية, ومحاصرة البحرية الامريكية لساحل غواتيمالا. بعدها كان الانقلاب في الكونغو عام1960, عندما اجبر باتريس لومومبا, أول رئيس وزراء للكونغو, علي التخلي عن منصبه, ونصب بدلا منه جوزيف كازافوبو وسط تدخل من الجيش البلجيكي( الذي تدعمه الولاياتالمتحدة) في البلاد, وكان تدخل عسكري عنيف من اجل الحفاظ علي المصالح التجارية البلجيكية بعد انتهاء الاستعمار, حاول لومومبا التصدي امام القوات البلجيكية, وحاول ايضا التقرب من الاتحاد السوفيتي لتمويل جيشه, ولكن ووفقا الي ما يعرف بتقرير لجنة تشيرش, وهي لجنة مكونة من11 سيناتور شكلت عام1975 داخل الكونجرس الأمريكي للإشراف علي الإجراءات السرية التي تقوم بها اجهزة الاستخبارات الامريكية, فإن الوكالة ظلت تمول وتشجع المعارضيين الكونغوليين الذين ابدوا رغبتهم في اغتياله, وبعد ان تم احباط محاولة لقتله عن طريق منديل مسمم من قبل قوات حرسه, قام وكلاء السي اي ايه, باخبار معارضيه الذين سلحتهم, عن مكان اختباءه, الي ان تم القبض عليه في اواخر عام1960 وتم قتله فيما بعد بطريقة غامضة في بداية عام.1961 ايضا كان قد تم الكشف عن تورط الولاياتالمتحدة في فيتنام الجنوبية عام1963, عندما بدأت علاقتها تتوتر مع زعيم البلاد نغو دينه ديم, واتخذت من حملة القمع الذي شنها ضد معارضيه من البوذيين, ذريعة لدفع جنرالات الجيش للانقلاب ضده, وهو ما تم الاعتراف به في تقرير شهير للبنتاجون في23 أغسطس1963, الا ان تمكن جنرالات الجيش من الاستيلاء علي السلطة وقتلوا ديم في1 نوفمبر.1963 في العام التالي تدخلت الولاياتالمتحدة بشكل سافر في البرازيل, خوفا من ان تقوم حكومة الرئيس البرازيلي جواو جولارت, علي حد تعبير السفير الأميركي لينكولن غوردون, من تحويل البرازيل الي صين الستينيات وقد دعمت الولاياتالمتحدة الانقلاب ضده عام1964 بقيادة أومبرتو كاستيلو برانكو, الذي كان وقتها قائد اركان الجيش البرازيلي, وقد اعترف وكالة الاستخبارات الأمريكية انه مولت المظاهرات في شوراع البرازيل ضد الحكومة, وقدمت للجيش الوقود والاسلحة التي تمكنه من حسم معركته, وقال وقتها الرئيس الأمريكي ليندون جونسون لمستشاريه الذين يخططون للانقلاب: أعتقد أننا يجب أن نأخذ كل خطوة ممكنة, وان نكون مستعدين للقيام بكل ما يتعين علينا القيام به وذلك وفقا لسجلات الحكومة الأمريكية في أرشيف الأمن القومي, التي كان قد رفع عنها السرية, وقد تولي الجيش حكم البلاد وبدعم من الولاياتالمتحدة حتي عام.1985 اما في تشيلي, فكانت الولاياتالمتحدة قد رفضت منذ اللحظة الاولي, نجاح المرشح الاشتراكي سلفادور الليندي, الذي انتخب رئيسا لتشيلي عام1970, وقال وقتها الرئيس الامريكي ريتشارد نكسون, لمدير السي اي ايه, اجعلوا الاقتصاد التشيلي يأن وقد ظلت هذه المحاولات لعرقلة الاقتصاد التشيلي الي ان قاد الجنرال أوغستو بينوشيه انقلاب عسكري ضد الليندي في عام1973, وفيما بعد مولت وكالة الاستخبارات المركزية حملة دعائية قوية لدعم نظام بينوشيه الجديد بعد توليه منصبه في عام1973, علي الرغم من معرفة الحكومة الامريكية بالانتهاكات المرعبة لحقوق الإنسان, بما في ذلك قتل المنشقين السياسيين. يبقي أن هناك العديد من المؤامرات لإحداث انقلابات في أنحاء مختلفة, قد تم الاعتراف بها رسميا من قبل الحكومة الأمريكية, لكن ظلت الوكالة تتمسك برفضها حتي الآن تقديم تفاصيل بشأنها, أو تقديم اعتراف رسمي, ولكن مع كل هذه السرية والغموض, فلا يوجد شك في أن هناك علي الأقل سبعة انقلابات ناجحة دبرت لها الولاياتالمتحدة, وان ظلت السرية هي البعبع الذي تستخدمه الوكالة المركزية ليبعدها عن التوترات السياسية اليوم, ويبقي لها قدرا من القدرات الهائلة المفترضة, في الوقت الذي تراجع فيه نفوذ الحكومة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في مصر.