من أجل النجاح والمال والشهرة ورضا أولي الأمر وفهم متوسطي الذكاء ومتسطحي العقول يتنازل الشيخ حاتم الشناوي بطل رواية إبراهيم عيسي مولانا عن الكثير من أفكاره, أو ربما كان التعبير أدق إذا قلنا: يحتفظ لنفسه بالتفاحة مقشورة ويعطي الناس القشور فيفرحون بها وحين يضطره موقف إنساني, وتحالف شرير بين مذيع برنامجه التليفزيوني والأمن, إلي التعبير ببعض الصراحة والعمق عن أفكاره, ينقلب الجميع عليه: الأمن والفضائيات والمعلنون والجماهير. تدور أحداث الرواية قبيل الثورة, في ظل سيطرة النجل( كما يسميه العمل) ومباحث أمن الدولة وكبار رجال الأعمال. والأحداث خيالية ولكن الظروف التي ولدتها والقوي التي تتحكم فيها, والمجال المعتم الذي تتحرك خلاله, كلها حقيقية وواقعية بل ومعروفة. إنها مصر حين تأزم الفساد وتحكم, بل إن الذي يحرك خيوط أحداث ومصائر الشخصيات هم بالتحديد من يجلسون في قمة السلطة. لقد كان حاتم الشناوي يمشي علي الحبل بإتقان, ويأخذ من الحياة أطايبها دون أن يسقط في النفاق السافر أو الكذب, كان يهمه رضا المشاهدين والمعلنين وأولي الأمر, لكنه كان يحرص أن تكون أحاديثه وفتاواه كلها صادقة, وألا يسقط في التكرار والكلام المعاد رغم أنه لا يخرج كثيرا عما يقوله الآخرون من المشايخ التليفزيونيين الأقل ذكاء وعلما.وكان ينتقم لنفسه أحيانا بالتنفيس عن آرائه وفكره الخاص المستقل المبني علي قراءات عميقة وعلم متين- ينفس عن كل هذا أحيانا في جلساته الخاصة. لكن الجالسين في قمة السلطة لم يتركوه يهنأ بحلوله الوسط, فخطر الفضيحة يهددهم حين يظهر في عائلة مصاهرة شاب يعلن تنصره ويرفض بإباء التخلي عنه, فيكلف الحاكم الشيخ المنكود حاتم الشناوي بتولي المسألة, وهو يعلم أي حاتم- أنه في حالة فشله أو حتي نجاحه, في كل الأحوال سيبطش به, فيكفي أنه علم بالسر. وكان الشيخ حاتم متأكدا أن هذا التنصر غير صادق, فالولد حسن لا يعلم شيئا عن المسيحية ولا عن الإسلام, بل هو مجرد تمرد علي أبيه الملياردير الخالي من العواطف والذي لا يملك وقتا للاهتمام به. إلا أن المشهد الأخير من الرواية الذي يصور تفجير كنيسة كالقديسين يفجر شيئا آخر: حسن لم يكن أحد ضحايا التفجير, لقد كان صانعه. حسن لم يتنصر, بل انضم لتنظيم القاعدة وكان تنصره ستارا, بل ووسيلة للنفاذ إلي أوساط المسيحيين وتنفيذ العملية. يتضفر مع هذا خط آخر يرتبط بنفس الشخصية في قمة السلطة: إنه اضطهاد الشيخ مختار الحسيني( شخصية وهمية لا تشير إلي شخص بعينه في الواقع كما أعتقد) لقد اطلع علي سر كان يخص المهيمن علي أحوال البلاد, فسلط هذا زبانيته كي يضيقوا عليه وعلي أتباع الطريقة الصوفية التي يرأسها, وامتد الأمر إلي بيته ثم في النهاية عذبته مباحث أمن الدولة حتي الموت بعد اتهامه بأنه شيعي ويتخابر مع إيران, وتجريسه إعلاميا في حملة كان علي الشيخ حاتم أن يشترك فيها ضد صديقه. لكنه استطاع الخروج من الفخ بعد أن سقط فيه نصف سقوط لكن هذا الإفلات نفسه أفقده رضا الأمن والمعلنين والمنتجين, بل ومشاهديه الذين صدقوا حكاية الشيعة وأن الشيخ مختار الحسيني شيعي. الغريب أن الحسيني حين اطلع علي سر الحاكم بأمره, كان الحاكم بنفسه هو من أطلعه, ونوعية السر, ولن أذكرها, لم تكن شيئا يطلع عليه مخلوق مخلوقا, فما بالك بإنسان منتفخ بالعظمة والجبروت. لذلك أري أن اختيار الحاكم أو غيره للحسيني أو غيره ليطلعه علي مثل هذا السر نقطة ضعف في الرواية. إلا أنها لا تنتقص كثيرا من جمالها فرغم ضخامتها( ستمائة صفحة من القطع الكبير) إلا أنها تستحوذ علي انتباهك حتي النهاية, ولا تفقد استمتاعك لحظة, رغم طول أحاديث حاتم, ويبدو لك في البداية أن الحكاية تخرج من بطن الحكاية, والبهو يتفرع إلي دهاليز تتفرع بدورها, إلا أنك تكتشف مع الوقت أن الحاكي الماهر ممسك بجميع الخيوط, لا يفلت منه خيط, بل تتضفر جميعا وتلتقي في النهاية في كرشيندو أو ذروة تنتهي بدورها بتقبل تفجير الكنيسة والإرهابي المتنصر الذي خدع الجميع. طبعا أحرضك علي قراءة هذه الرواية لأنك ستستمع بها أولا. وستتعلم منها ثانيا. فالشيخ حاتم الشناوي حقا بحر من العلم. كما أن شخصيته جديدة علي الأدب, إلا أنها ليست جديدة علينا نحن مشاهدي إبراهيم عيسي ومحبيه. لأن حاتم الشناوي علي اختلافه الشديد عن كاتبه, فيه من خفة ظله وحس الدعابة الذي لا يخطئه القارئ حين يقارنه بابراهيم عيسي الإعلامي, كما أنه يشبهه في الثقافة وعمق التحليل ومعرفته بخبايا وكواليس الإعلام المرئي. ولا تحسبن أنك عرفت الحكاية, فلم يتسع المجال إلا لجانبها المهني والعام, أما الجانب الشخصي والعاطفي من نفس بطلنا الشيخ حاتم الشناوي فأنت لا تعرف عنه شيئا. ولن تعرف عنه شيئا حتي تفعل مثلي.. وتقرأ.