كأي زلزال كبير لابد له من توابع صغيرة تتواتر رويدا رويدا إلي أن تستقر الاوضاع والمعادلات الجديدة. واعتقد أن مصر الآن في مرحلة توابع الزلزال الكبير والتي سوف تستمر بعض الوقت إلي أن تستقر الأمور, وتأخذ مصر مسارها نحو المستقبل بثقة واقتدار. وفي مثل هذه المراحل تختلط مشاعر اللا ثقة بقدر من التفاؤل, وتتبدي الظواهر المتناقضة بقوة شكلا والمتكاملة موضوعا. والمهم أن يكون لدي الشعب والمؤسسات اكبر قدر من التجانس والترابط ووضوح الرؤية. وكما يقال ربما ضارة نافعة, فقد عرفت مصر من معها ومن ضدها, وبات لدينا الآن خريطة سياسية وإعلامية واضحة تماما تكشف الصديق والشقيق الحق, كما تكشف العدو والخسيس. وعرفت أيضا من يمكنه أن يتحمل المسئولية في اللحظات الحرجة, ومن لا يقدر إلا علي الهروب والقفز من السفينة بدافع اناني. وما أكثر الضرر الذي تعرضت له مصر طوال الشهرين الماضيين, والذي وصل إلي قمته يوم الأربعاء الماضي14 اغسطس, والذي شهد الفصل ما قبل الاخير من ملحمة الجماعة التي حلمت بفتح مصر طوال80 عاما, وحين قدر لها الوصول إلي السلطة في لحظة عبثية غير قابلة للتكرار, لم تتمالك نفسها وتصورت أنها قادرة علي هضم شعب قوامه90 مليون نسمة لديهم تراث حضاري وتاريخي ومدني يمتد آلاف السنين, وحين بدا لها استحالة تحقيق ما تسعي إليه, لم تكترث كثيرا واستمر عنادها, وتصورت أن لديها قدرات خاصة تمكنها من معاقبة كل الشعب وكل المؤسسات وأن تخلق مؤسسات موازية وأن ترفع السلاح في وجه الجميع, مستعينة بذلك بتنظيم عالمي عابر للدول وبعض الحكومات الخاضعة له وعدد كبير من المرتزقة والارهابيين من جنسيات مختلفة. ورغم قوة الضربة التي تعرضت لها الجماعة بفعل التضامن غير المسبوق بين الغالبية الساحقة من المصريين والحكومة والمؤسسات السيادية, والتجانس النادر بين التحرك الشعبي والفعل المؤسسي كما تبدي في30 يونيو الماضي وما بعده, فإن الجماعة ما زالت تعيش في جلباب الماضي وأوهام فتح مصر مرة أخري علي أسنة الرماح التركية المدعومة من الناتو ومصحوبة بالدعايات السوداء من قنوات إعلامية عربية حفرت اسمها في مزبلة التاريخ. وكما يقال من لا يري من الغربال فهو أعمي, فالجماعة وتنظيمها الدولي لا تري إلا أوهامها وتغمض العين عن ثورة شعب حر يسطر تاريخه بكل ثقة وإقتدار. والمحصلة أن الجماعة فقدت البصر والبصيرة معا ولمائة عام مقبلة في اقل تقدير. وهو ما يفسر ذلك الانغماس المرعب في الارهاب بكل أبعاده المدمرة وآلياته البغيضة. إنه الإرهاب المفضوح الذي لن ينساه المصريون أبدا ولن يغفره التاريخ مهما حاول المزورون والمرتزقة والكاذبون والمنافقون فعله لتغيير الحقائق أو طمسها. فقد تجلي الأمر كوضوح الشمس في أيام الاعتصام المسلح في رابعة والنهضة التي امتدت ستة اسابيع, ووصل إلي العنان في الأيام الثلاثة الماضية التي تلت فض الاعتصام بصورة احترافية عالية القدر من قبل الشرطة المصرية, وعبر إرهاب الجماعة عن نفسه في مسيرات الترويع للمصريين وفي قطع الطرق, وفي الاعتداء الخسيس علي الكنائس وحرق62 كنيسة في اكثر من مدينة وقرية والتعليم علي ممتلكات بعض الاقباط في قري ومدن بالصعيد تمهيدا للإعتداء عليها, وحرق مسجد رابعة في محاولة لطمس بعض قرائن جريمة الاعتصام المسلح فيه, والهجوم المسلح علي32 قسم شرطة وقتل الضباط والجنود في بعضها, بل وسحل جثثهم أمام الناس الخائفة وهم يرددون إسلامية إسلامية كما حدث في قسم شرطة كرداسة في واحدة من احقر العمليات الارهابية للجماعة وأنصارها المزعومين, وحرق منشأت عامة كمباني ومقار المحافظات كما حدث في مبني محافظة الجيزة وحرق وزارة المالية وكلية الهندسة بجامعة القاهرة, وحرق ونهب مقار لشركات كبيرة, والتحصن في مساجد مختلفة وتخزين الأسلحة الآلية فيها, والتبشير بعمليات اغتيال لبعض الشخصيات العامة والاعلاميين, ناهيك عما يحدث في سيناء من تجييش للإرهابيين والمرتزقة لمواجهة الجيش والشرطة وترويع أهالي سيناء. هذه الحرب الارهابية القذرة علي مصر وشعبها أنهت أسطورة الجماعة الاسلامية المعتدلة, وأكدت أن الجماعة هي منبع الارهاب الديني في مصر والمنطقة بأسرها, وأن الغالبية العظمي من هذه الجماعات والأحزاب الفرعية المتدثرة بشعارات دينية وجهادية ومهما كانت مسمياتها وشخوصها ليست إلا فروعا للجماعة الأم. حرب إرهابية قذرة بكل المعاني, ولكنها لم تخلو من بعض المفارقات الصارخة, فهناك شيوخ طالما صدعونا بالفتاوي عن الحلال والحرام لم تروعهم حقائق الحرق والقتل والتعذيب والسحل وقطع الطرق, رغم أن هناك في الفقه الاسلامي الحنيف فصلا كاملا عن قطع الطريق وحد الحرابة وعقاب المفسدين في الارض وعقابهم في السماء. وهناك دول طالما صدعتنا عن حقوق الانسان وحماية الأقليات وحق التظاهر السلمي وحقوق الشعوب في التغيير, وإذا بها تؤيد فصيلا إرهابيا في مواجهة شعب بكامله, وكأنها لم تسمع عن حرق كنائس واعتصامات مسلحة وقتل أناس بدم بارد, أو ربما سمعت وعرفت ولكنها تغاضت عن عمد واغلقت العين والأذن. وهنا المفارقة الاكبر, كيف لجماعة تمارس الارهاب المذموم بكل جسارة ولكنها تنال التعاطف الامريكي والغربي الصريح؟ ليس من تفسير إلا أن هناك صلة عضوية بين هذه الدول ذات التاريخ الامبريالي الاستعماري وبين هذه الجماعة, صلة تقوم علي دور محدد تمارسه الجماعة في إطار التصور الكوني المستقبلي للمنطقة الذي يخدم إسرائيل والغرب, مقابل أن يترك للجماعة وفروعها حكم مصر وبعض الدول العربية الاخري, مشكلة بذلك وعاء كبيرا لجماعات الاسلام السياسي التي يتم تدجينها لصالح الغرب ومصالحه الكبري, بمشاركة تركية مباشرة التي وعدت دور الزعامة كما كان الوضع إبان الدولة العثمانية. وبذلك يتشكل عالم عربي جديد وفق الرعاية الأمريكية والأوربية, وبما يذكرنا باتفاقيات سايكس بيكو الشهيرة لتقسيم الوطن العربي بين القوي الاستعمارية مطلع القرن العشرين. لكن ما نسيه هؤلاء أن مصر الحضارة والمدنية رغم كل الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها ليست قابلة للاستعمار مرة اخري, وأن قدرها هو أن تدخل الحروب مهما كانت قذرة وأن تنتصر فيها بإذن الله تعالي, وبالتعاون الصادق مع أشقائها العرب المخلصين للإسلام السمح والعروبة النقية. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب