قليلة جدا هي اللحظات التي يجد فيها الكاتب أي كاتب نفسه أمام لحظة اندهاش حقيقية تكاد أن تعجزه عن ترجمة أفكاره إلي كلمات علي الورق, وربما كانت اللحظات التي تعيشها مصر اليوم ضمن تلك اللحظات المسروقة من عمر الزمن كما سرق برومثيوس النار من موكب الآلهة. في الأسبوع الماضي وفي نفس المكان كنا نخشي أن تقع مصر في براثن الدولة الفاشلة واليوم نجد مصر في حال غير الحال وينتظرها مآل مغاير المآل, وبات وكأن مصر لم تعد شكلا نفسا ورسما وجسما في انتظار جودو الذي يمكن أن يجئ أو لا يجئ, ذلك لأن الانتظار بحد ذاته عبث حقيقي خالص لا تشوبه شائبة خاصة عندما يكون الشيء المنتظر لا وجدود له أصلا, ولا معني له بل لا هيئة يقدر أن يتخذها. ليس ثمة شيء يمكن عمله, هكذا كان يصرخ ايستراغون البطل الأول في رواية المؤلف الايرلندي الشهير صموئيل بيكيت في انتظار جودو, ولم يكن لديه شيء ما يفعله مع رفيقه فلاديمير سوي انتظار جودو, الذي يمثل الأمل المؤجل الذي يجلب المرض للقلب, لاسيما وأن التوقع هو مصدر كل أوجاع القلب كما قال شكسبير ذات مرة, غير أن المصريين في30 يونيو نحو جانبا صرخة ايستراغون, ومن جديد فعلوا الشيء المبهر الذي أخرجهم من ركام اليأس. وطرح القضايا يبدأ دائما وأبدا من الذات وليس من الآخرين هذه هي القاعدة الذهبية التي قادت مصر والمصريين إلي لحظات التنوير الحقيقية التي هزمت ظلامية الظلاميين والسيكولائية التاريخية الاجترارية للمجترين. في6 أكتوبر1973 كان دعاة انتظار غودو من غير المصريين يذهبون إلي أن هدم خط بارليف الحصين يحتاج إلي تعاون سلاح المهندسين الأمريكي والروسي معا, وبفكرة مصرية عبقرية انهار بارليف في ست ساعات أفقدت العدو توازنه كما قال الرئيس السادات, وفي30 يونيو أيضا كان المصريون يغيرون التاريخ, تاريخ الشرق الأوسط الجديد أو الكبير ومؤامرته, ويبطلون مخططات تقسيم دول المنطقة مع جهنميتها, ويوقفون تتار العصر في الخارج علي شافة اليأس, ومرد ذلك كله أنهم من جديد طرحوا رؤاهم من عندياتهم وربما تذكروا وهم خروج من منازلهم ما قاله الشاعر اليوناني سيمونيدس هزمناهم حين أنسيناهم تاريخهم وحضارتهم. استرجع المصريون تاريخهم واستحضروا لحظات الإرادة الوطنية العصية والأبية علي شق النسيج الاجتماعي المصري ولذلك بدا وكان النجاح قد أوفي لهم, فالإنسان كائن حي ذو تاريخ.. لأن التاريخ هو الصفة الوحيدة التي يتمتع بها عن سائر الكائنات الحية الأخري. وأمام مصر تحديات جسام, وفي طريق المصريين خطوط بارليف عديدة تهدد الداخل المصري وتحتاج إلي ذات العبقرية المصرية في تجاوزها والقفز من فوقها فالمجتمعات العظيمة لا تموت من الخارج أبدا, أنها لا تموت إلا حينما تبدأ في الانهيار من الداخل. ثلاث عقبات تقف في طريق مصر اليوم, أولاها الافتراقات العقائدية والتي هي في حاجة لاستيعاب دروس الأجداد بدءا من عصور الفراعنة, والتوقف مليا أمام كهنة آمون الذين لم يلجأوا إلي العنف أو سفك الدماء مع كهنة اخناتون, بعد أن أخفق الأخير في دعوته, بل خلوا سبيلهم إنسانيا وان وضعوا المحاذير علي دعوتهم ورؤاهم الفكرية, ما يعني أنه لا مجال الآن في مصر لإقصاء أي فصيل أو عزل أي مصري. وتتمثل العقبة الأخري في تحقيق العدالة الفاعلة والناجزة والتي يعني فقدانها بحسب صاحب مدينة الله تحول أي بلد إلي مملكة للصوص, فإذا فقد العدل أصبحت الممالك جماعات كبيرة من اللصوص وما هي جماعة اللصوص, أنها مجموعة من البشر تأتمر بأمر إنسان واحد وتعترف بعهد اجتماعي ينظم تقاسم المغانم فيما بينها. العقبة الثالثة والأخيرة هي الحقيقة والمصالحة وهو نموذج عرفته دول كثيرة حول العالم, فما جري في بر مصر المحروسة طوال عقود كثيرة ولا أقول في العام المنصرم فقط يستدعي معرفة الحقائق بشفافية ونزاهة وموضوعية دون الوقوع في بئر الانتقام إذ ماؤه مالح ومن يشرب منه يعطش, في حين تبقي المصالحة مخرجا حقيقيا لمن يريد البناء والنماء, مع إنفاذ وتحقيق العدالة لاسيما إذا كان الأمر يتعلق بالأمن القومي المصري في الحال, وسلامته في الاستقبال بكل مفرداته وعناصره وفي مقدمتها البشر قبل الحجر. المسطح المتاح للكتابة يعجز عن المضي قدما في الحديث عن اللحظات المصيرية التي تعيشها مصر التي فتحت صدرها وقلبها وأياديها لعناق المستحيل من جديد.. مصر تستيقظ من سبات انتظار جودو وتأمر الجبل أن ينتقل فينتقل محدثا زلزلة كبري عربيا ودوليا.. مصر الآن في حاجة عبر شبابها إلي فعل الديمومة الذي يغير وجه الحياة من البطش إلي الحرية الحقيقية ومن الظلم إلي العدل, ومن الانكفاء علي الذات المحلية إلي رحابة الانتماءات الاقليمية والعالمية الإنسانية أمس واليوم والي الأبد. لمزيد من مقالات اميل أمين