كان عام2011 الذي تفصلنا ساعات علي نهايته هو بامتياز عام الثورات, العام الذي قررت فيه شعوب الأرض عن بكرة أبيها بدءا بالشعوب المطحونة بالفقر والجهل, ومرورا بتلك التي كوتها لعقود طويلة آلة القمع لأنظمة ديكتاتورية حاكمة, وانتهاء بتلك التي انتفضت ليس بسبب الجهل, وليس بسبب الفقر, وليس بسبب سلطوية نظام حاكم, وإنما ثارت لأنها وصلت لمرحلة من النضج والوعي تمكنها من أن تقف وتصرخ مطالبة بحياة أفضل, حياة تضع فيها هذه الشعوب الواعية الثائرة قواعد اللعبة الاقتصادية والسياسية. فمنذ أن أشعل الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه احتجاجا علي قمع شرطية صفعته علي خده, تحولت هذه الصفعة إلي شرارة أشعلت النار في هشيم القهر والاستبداد في مصر ثم ليبيا فاليمن وتونس والبحرين, ولتصبح هذه الصفعة إيذانا بسقوط أنظمة اعتبرها أصحابها مخلدة بداية بالرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي, مرورا بالرئيس السابق حسني مبارك, فالعقيد الليبي الراحل معمر القذافي, ثم الرئيس اليمني المنتهية ولايته علي عبد الله صالح ... ولندع القوس مفتوحا... وأيا كانت الاسباب التي ثار من أجلها التونسيون والمصريون والليبيون والسوريون واليمنيون, فالجميع اتفق علي البحث عن الحرية والعدالة والديمقراطية ومستقبل أفضل لأولادهم. هذا الاتفاق في أرضية التحرك الثوري, لا يعني الاتفاق في الظروف والطرق التي انتهت بسقوط النظام, ففي تونس فضل الجيش ان يلتزم بثكناته تاركا التجربة الشعبية تتحرك بدون رقيب حتي يختار التونسيون ويتحملوا عواقب هذا الاختيار, أما في ليبيا فقد كان سقوط العقيد الليبي نتيجة لتدخل دولي بعد أن استبد هوس السلطة بالقذافي فبات مستعدا لدفع حياة الآلاف من شعبه نظير البقاء في كرسي الحكم. ولكن, وبالرغم من هذه الفروق, فان الشعوب العربية تحركت ليست بفعل العدوي وإنما بعد أن ملت وتعبت من تحمل أعباء نظم كان كل ما يهمها هو البقاء في الحكم. قوة الإعلام الحديث وإضافة إلي الاتفاق علي البحث عن المستقبل والعدالة والديمقراطية, كان هناك عامل آخر ساعد هذه الشعوب علي الانتفاض في وجه الظلم, هذا العامل تمثل في مواقع الاتصال الحديثة, الفيس بوك وتويتر واليوتيوب التي جعلت من المواطن صحفي قادرا ليس فقط علي نقل الخبر وإنما صناعته وتأكيده ونشره من مكان إلي آخر أيا كانت المسافات. فعبر اليوتيوب انتشرت صور البوعزيزي, ومن خلال الفيس بوك عرف العالم قصة هذا الشاب التونسي, ومن خلال الفيس بوك أيضا عرف المصريون الكثير عن خالد سعيد عبر صفحة كلنا خالد سعيد التي أسسها وائل غنيم علي موقع التواصل الاجتماعي, حيث نشر صورا لسعيد أبرزت مدي وحشية رجال الأمن في التعامل مع هذا الشاب, الذي حتي ولو قبلنا بفرضية أنه متهم, لا يجوز أن يتم التعامل معه أو مع أي انسان بمثل هذه القسوة. وهكذا دواليك, من تونس, إلي مصر, فليبيا, واليمن, بحث كل مجتمع عن ضحية القمع والتعذيب, ليكون ايقونة لتحرك شعبي قاد بدايته في مصر وتونس الطبقة الوسطي المتعلمة, التي وصلت لدرجة من الوعي تمكنها من الخروج إلي الشارع وقيادة الجماهير تحت هدف واحد البحث عن حياة أفضل. من التحرير إلي وول ستريت وبالرغم من مسمي الربيع العربي, فالواقع أن هذه الانتفاضة الشعبية لم تكن قاصرة علي العرب فحسب, حيث قدم المصريون الذين تظاهروا سلما علي مدي18 يوما نموذجا للعالم في قوة الشعب, ليصبح ميدان التحرير, ايقونة الحرية سعي الكثيرون من المتظاهرين في الولاياتالمتحدة وأوروبا وإسرائيل وروسيا إلي الافتداء بها. فلقد سعت مراكز البحث ووسائل الإعلام الأمريكية إلي الربط بين منهج زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينج وبين توجه حركة وول ستريت حين تجمع الأمريكيون للتظاهر في قلب العاصمة واشنطن للمطالبة بإحياء دعوة مارتن لوثر كينج لما وصفوه بتحقيق العدالة في الولاياتالمتحدة. أن مظاهرات احتلوا وول ستريت كشفت عن تحول في الشارع الأمريكي الذي بات يستقي تحركاته من تلك التي يشهدها ميدان التحرير في مصر بعد أن اكتشف الأمريكيون أنهم ضحية لعبة سياسية اقتصادية كبيرة. فور أن الربيع العربي اندلع من شرارة اللهب الذي أحرق التونسي البوعزيزي نفسه به, فإن ربيع وول ستريت خرج من رحم السياسات الاقتصادية الأمريكية التي أعلت من شأن أصحاب الثروات علي حساب المواطن الأمريكي خاصة الطبقة الوسطي التي تشكل ال99% كما وصف المتظاهرون أنفسهم, الطبقة الوسطي التي وجدت نفسها تتحمل كل اعباء طاغوت الرأس مالية من ضرائب وسياسات تقشفيه لصالح الأثرياء الذين لا يشكلون سوي ال1% ولكنهم مصدر تمويل الحملات الانتخابية الرئاسية فضلا عن تلك المتعلقة بالكونجرس الأمريكي. الواقع أن مظاهرات وول ستريت ليست وليدة عام2011 ولكنها نتاج لسلسلة من الاخطاء الفادحة ارتكبتها إدارة الرئيس الجمهوري جورج بوش الإبن حيث شهدت الولاياتالمتحدة في عهده مظاهرات حاشدة ضد العولمة ومنظمة التجارة العالمية وما يسمي بالنظام الدولي الجديد أتي لها كثيرون من خارج الولاياتالمتحدة لإعلان سخطهم علي كل من صندوق النقد والبنك الدوليين. لقد أردك الأمريكيون أن وظائفهم باتت مهددة والأمل في حياة كريمة يتبخر, فألقوا باللائمة علي سماسرة المال والمتلاعبين بالبورصات والقابضين علي أموال الناس, لذلك تظاهروا, ليس لاسقاط النظام السياسي, لأنهم قادرون علي تغيير الرئيس والبرلمان وفقا لسلسلة قوية من الخطوات الديمقراطية, ولكنهم تظاهروا- واضعين ايقونة التحرير نصب أعينهم- لأنهم يريدون إرساء أولويات جديدة للعبة الاقتصادية, يريدون أن تكون الأولويات في القرار الداخلي للدولة هو لخلق فرص عمل وإيجاد الاستثمار الحقيقي, فالأمريكيون بحثوا عن الحلم في أرض الأحلام ومثلهم مثل كل شعوب الأرض أرادوا استعادة حلم الحياة الكريمة الذي سلبه منهم طاغوت وول ستريت. من وول ستريت إلي القارة العجوز لقد أعلنت حركة احتلوا وول ستريت أنها استمدت إلهامها من ميدان التحرير, وتأكيدا لفكرة عالمية الأزمة, دعت هذه الحركة شعوب العالم للتظاهر والاحتجاج تضامنا معها في يوم15 أكتوبر2011, فاجتاحت العالم موجة من المظاهرات خرجت من نيويورك إلي أقصي الشرق في الصين وصولا إلي أقصي الغرب في شيلي. حيث شهد عام2011 أول مظاهرة عالمية بالمعني الحرفي للكلمة حيث خرجت المظاهرات يوم15 اكتوبر في أكثر من900 مدينة داخل وخارج الولاياتالمتحدة, بأعداد متفاوتة, فخرج نحو25 ألف شخص في سنتياجو, عاصمة شيلي, وتجمع60 ألف شخص في برشلونة بإسبانيا, وتظاهر نحو خمسة آلاف شخص في فرانكفورت بألمانيا أمام البنك المركزي الأوروبي, واحتل نحو ألف من المتظاهرين الساحة أمام كاتدرائية سان بول في العاصمة البريطانية لندن. لقد وصف المحلل الاقتصادي جيديون رحمان عام2011 بأنه عام السخط العالمي حيث رأي أن ما جمع ثورات الربيع العربي مع مظاهرات مدريد وأثينا, والاحتجاجات في تشيلي والهند والصين, برغم اختلاف أشكالها وأسبابها المباشرة, هي أنها في مجملها تمثل مواجهات بين نخبة غنية ذات صلات عالمية ومواطنين عاديين, يحسون أنهم لم يستفيدوا من ثمار النمو الاقتصادي, كما أنهم غاضبون من انتشار الفساد بين الطبقات الغنية والحاكمة. فقضية عدم المساواة, والإحساس بالظلم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي, تعد هي الخيط الأساسي الذي يربط هذه الاحتجاجات, وهي ترتبط بنمط الرأسمالية المتوحشة الذي ساد العالم في العقود الماضية. ويؤكد عالم الاقتصاد الشهير نورييل روبيني أن أي نموذج اقتصادي لا يتعامل بشكل فعال مع قضية عدم المساواة سوف يواجه, عاجلا أم آجلا, أزمة في الشرعية. وكانت الرسالة التي وجهتها القارة الأوروبية العجوز بالمظاهرات التي خرجت في البرتغال واليونان وبريطانيا, رسالة تأييد لأفكار احتلوا وول ستريت, فالجميع أكد بصوت واحد أن تبني الحكومات لسياسات تقشفيه يتحمل عبئها الطبقة الوسطي ستقوض إلي سلسلة من عدم الاستقرار السياسي, يتساوي في ذلك ما إذا كانت الحكومات التي تتخذ هذه القرارات ديمقراطية أم سلطوية. إسرائيل وكسر التابو بالرغم من عدم وصول حركة الاحتجاجات في إسرائيل إلي حاجز المليون متظاهر, فإنها شهدت أكبر حشد من نوعه في تاريخ الدولة اليهودية, حيث قام مئات الآلاف من الاسرائيليين بكسر تابو يوم السبت وخرجوا في مسيرات جابت البلدات والمدن إسرائيلية تحت راية العدالة الاجتماعية. وفيما وصفت بأم كل المظاهرات, قدرت القناة الثانية للتليفزيون الإسرائيلي والتي استخدمت إشارات الهواتف المحمولة وبيانات أقمار صناعية أخري لتتبع المظاهرات في مختلف أرجاء إسرائيل عدد المتظاهرين ب460 ألف شخص, وقدرت قنوات تليفزيونية أخري العدد بما يتراوح بين450 ألفا و460 ألف شخص. ووصف زعماء الاحتجاج ما حدث بأنه لحظة الحقيقة للحركة الشعبية الآخذة في الازدياد منذ يوليو الماضي من مجموعة من الطلاب إلي تعبئة شاملة لكل المنتمين للطبقة الوسطي في اسرائيل. فاسرائيل مثلها مثل أوروبا والولاياتالمتحدة, تحملت فيها الطبقة الوسطي أعباء ميزانية وزارة الدفاع- المبالغ فيها من وجهة نظر المتظاهرين, الذين لمسوا التابو الثاني في اسرائيل وهو ميزانية العسكر مطالبين بتقليص ميزانية وزارة الدفاع لصالح المشاريع المدنية كبناء المساكن والرعاية الصحية. روسيا تبحث عن الانتخابات النزيهة لم يخل مكان في العالم هذا العام من المظاهرات والاعتصامات, وكانت آخر الدول التي أصابتها عدوي التظاهر هي روسيا التي شهدت مظاهرات عارمة هي الأكثر عددا والأشد والأعنف من حيث المطالب منذ ان تولي بوتين مقاليد السلطة في روسيا, فقد كسر الشعب الروسي حاجز الخوف من السلطة وخرج ليطالب برحيل رئيس الوزراء بوتين, كما طالبوه بعدم ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية المقبلة في مارس2012 واتهموه بالفساد وبأنه أحاط نفسه بالفاسدين. وبالرغم من تعدد نقاط التشابه بين روسيا في عهد بوتين ومصر في عهد مبارك وتونس تحت حكم بن علي حيث يتفقون في وجود الشباب المثقف الذي يعاني من الحرمان, وهناك المعارضة عبر الإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعية, وهناك الدولة الفاسدة التي تديرها نخبة صغيرة. علي الرغم من كل هذه النقاط, فإن المظاهرات الروسية ليست كربيع الثورات العربية, فالمعارضة الروسية لا تتمتع بالقوة التي تمكنها من توحيد الشارع ضد النظام, كما أن بوتين لديه رزمة من الخيارات التي يمكن أن يتبناها لمواجهة الاحتجاجات فمن الممكن أن يبدأ في إبعاد نفسه عن حزب روسيا الموحدة الحاكم, وهو الحزب الذي أسسه بنفسه, بإمكانه أن يقبل بأن النتيجة تحمل توبيخا ضمنيا له, ويسمح بالتعددية السياسية داخل البرلمان, فالغضب الشعبي لم يكن يستهدف الكرملين, ولكن الناس الذين يتم تعيينهم. وأحد أبرز أوجه الاختلاف بين المظاهرات الروسية والربيع العربي, هو أن المتظاهر الروسي يريد انتخابات عادلة ونزيهة, فغالبية اللافتات التي رفعها المحتجون كتب عليها لا نريد ساسة فاسدون ولا نريد ساسة كاذبون, نريد انتخابات نزيهة. فالواقع أن الروس لا يردون اسقاط النظام كما كان الحال في ثورات الربيع العربي وإنما ضمان نزاهة العملية الديمقراطية التي ستسمح لهم باختيار الرئيس في مارس المقبل,وهم يريدون أن يتم هذا الاختيار علي أسس من النزاهة والشفافية.