في العشرين من ديسمبر الحالي قام سلفاكير رئيس دولة جنوب السودان بزيارة خاطفة للقدس المحتلة إلتقي خلالها بأركان الدولة العبرية حيث أجري لقاءات مع رئيس الدولة شيمون بيريز ووزير الدفاع باراك ووزير الخارجية ليبرمان. كما أجري مباحثات مطولة بالطبع مع رئيس الوزراء بنامين نتانياهو. واللافت أن التغطيات الواردة عن الزيارة سعت نقلا عن الصحف العبرية- إلي التركيز بشكل أساسي علي مشكلة اللاجئين من أبناء جنوب السودان رغبة إسرائيل في إعادتهم والتخلص منهم. وهكذا غابت الأبعاد الاستراتيجية لهذه الزيارة التي كشفت, طبقا لتصريحات سلفا كير خلال الزيارة, عن طبيعة العلاقة العضوية التي تربط بين إسرائيل ونشأة دولة جنوب السودان, حيث أشار كيرإلي أنه بدونكم ما كنا لنكون موجودين, قاتلتم معنا للسماح بإنشاء جمهورية جنوب السودان. وأضاف في تصريح آخر بأن بلاده تعتبر إسرائيل نموذجا ناجحا, مؤكدا أنه سيتعاون مع إسرائيل وسيعمل معها يدا بيد من أجل توثيق العلاقات. تاريخ من التدخل إلتفتت إسرائيل منذ وقت مبكر إلي أهمية توظيف والاستفادة من الصراع في جنوب السودان, ورغم أن السودان ليس دولة مواجهة, فإنه بمساحته الشاسعة وثرواته الهائلة غير المستغلة يمكنه التحول إلي كيان إقتصادي كبير سيكون بالتأكيد مصدر قوة وإسناد لمصر والعالم العربي, بالإضافة إلي أنه سيكون ركيزة إستقرار وقوة أساسية في حوض النيل وإفريقيا بشكل عام. ولذا يجب عدم السماح له بانهاء الحرب الأهلية في الجنوب, بل يجب اطالة أمد هذه الحرب إلي أقصي مدي ممكن عن طريق الدعم التسليحي والتدريبي والدبلوماسي والاعلامي, ومن ثم تحويل الحرب الاهلية إلي أداة لتفكيك الدولة السودانية. وقد يكون من المفيد في هذا السياق الإشارة إلي جزء من تقرير آفي ديختر وزير الامن الداخلي الاسرائيلي والذي نشر في سبتمبر2008 حول إستراتيجية إسرائيل تجاه أزمتي جنوب السودان ودارفور, إذ يورد التقرير حرفيا ان إسرائيل حين تبلور محددات سياسياتها واستراتيجياتها حيال العالم العربي, تنطلق من عملية استجلاء واستشراف للمستقبل وأبعاده, وتقييمات تتجاوز المدي الحالي أو المنظور, وأنه كانت هناك تقديرات إسرائيلية منذ بداية استقلال السودان, أنه لا يجب أن يسمح لهذا البلد رغم بعده عن اسرائيل, أن يصبح قوة مضافة إلي قوة العالم العربي.. وفي ضوء هذه التقديرات كان علي إسرائيل أن تتجه إلي هذه الساحة وتعمل علي مفاقمة الأزمات وإنتاج أزمات جديدة حتي يكون حاصل هذه الأزمات معضلات يصعب معالجتها فيما بعد.. لإضعاف السودان وانتزاع قدرته علي بناء دولة قوية موحدة.. بإعتبار هذا ضرورة من ضرورات دعم وتعظيم الأمن القومي الإسرائيلي. وقد أشار ديختر إلي أن الدور الإسرائيلي انطلق من مرتكزات اقيمت في أثيوبيا وفي أوغندا وكينيا والكونغو. واشار الي ان جميع رؤساء الحكومات في إسرائيل تبنوا هذا الخط الاستراتيجي تجاه الجنوب ومن بعد ذلك في دارفور.. ومن الواضح انها سوف تشمل الآن مناطق التوترات التي ظهرت مؤخرا في جنوب كردفان والنيل الازرق. وهكذا لعبت اسرائيل دورا محوريا في استمرارية الحرب الاهلية في جنوب السودان وذلك منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي, ومن يطلع علي مذكرات جوزيف لاجو قائد حركة انيانيا آنذاك سوف يذهل من حجم التفاصيل المتعلقة بمدي ونوعية التدخل الاسرائيلي في هذه الحرب وكيف كانت تصل الاسلحة عبر الحدود الكونغولية والاوغندية وكيف كان يتم ذلك في احيان كثيرة عن طريق الابرار الجوي وكيف كانت تدار العلاقة عبر ضباط الاتصال في الدول المحيطة بالسودان, وايضا عن الزيارات الميدانية لبعض ضباط وعناصر الموساد لميادين القتال في الجنوب, الأمر الذي وصل في مراحل تالية الي انتظار لاجو لتعليمات ونصائح تل ابيب حتي يستطيع إعلان مواقفه او قراراته تجاه تطورات اساسية في الحرب الاهلية آنذاك. وتشير تقارير ودراسات عديدة الي استمرارية هذا الدور في الثمانينيات والتسعينيات, حيث تشير دراسة منشورة للعميد موشية فيرجيعلي سبيل المثال, إلي طلب الحركة الشعبية لتحرير السوان, إبان انشقاق الناصر في1992 أربعة ملايين طلقة لمدافع رشاشة وخمسة ملايين دولار من أجل استرداد قاعدتي كبويتا وتوريت. ومؤخرا أكد عاموس يادلين الرئيس السابق للمخابرات العسكرية أمان علي المساعدات التي قدمت لجنوب السودان, وأضاف ونشرنا في الجنوب ودارفور شبكات رائعة قادرة علي الاستمرار بالعمل إلي ما لا نهاية, ونشرف حاليا علي تنظيم الحركة الشعبية هناك, وشكلنا لهم جهازا أمنيا استخباريا. ومن الواضح انه بعد تحقق انفصال الجنوب جاء الدور الآن علي تسريع المرحلة الثانية بالسعي إلي إعادة تقسيم الشمال الي كانتونات او تحوله الي الصوملة. قواعد عسكرية وفيما يتعلق بالملفات المباشرة التي تم بحثها في هذه الزيارة فقد أشارت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية, إلي أن إسرائيل بصدد إنشاء قاعدة جوية في ولايتي الوحدة وأعالي النيل بجنوب السودان لتدريب الطيارين الحربيين الجنوبيين. وكذلك تمويل إنشاء خزان لتوليد الطاقة الكهربائية بمنطقة نمولي. كما كشفت صحيفة معاريف الاسرائيلية عن البدء في نصب أبراج للمراقبة الحدودية مزودة بأجهزة رصد حراري متطورة بمناطق راجا وشمال أعالي النيل وعلي الحدود بين النيل الأزرق وولاية الوحدة. كما تعتزم إسرائيل بناء ثكنات لقوات الحدود ومستشفيات عسكرية. مهددات الامن القومي المصري وهكذا يبدو جليا أن إسرائيل سوف تسعي لإستخدام تواجدها الكثيف في جنوب السودان, للعمل علي محورين أساسيين, الأول يتعلق بأزمة المياه في حوض النيل, حيث سوف تسعي إلي عرقلة أي مشروعات لإستقطاب الفواقد في جنوب السودان, والتي كان مخططا في السابق ان تتم لصالح السودان ومصر, ولن تعدم الذريعة لذلك تحت دعاوي ومبررات بيئية أو إقتصادية أو غيرها, وفي الوقت نفسه سوف تسعي إلي تعقيد أزمة إتفاقية عنتيبي, عبر علاقاتها الممتدة مع اوغندا وكينيا واثيوبيا, علما بان كل من الرئيس الاوغندي موسيفني ورئيس الوزراء الكيني اودنجا زارا اسرائيل قبل اسابيع قليلة من زيارة سلفاكير لبحث قضايا المياه. المحور الثاني للتواجد الاسرائيلي ينصرف الي اعطاء دفعة قوية لكل الصراعات والتوترات القائمة في شمال السودان في دارفور والنيل الازرق وجنوب كردفان وغيرها, لتنفيذ المرحلة الثانية من المخطط الاستراتيجي الاسرائيلي, بتفكيك شمال السودان او تحويله الي الصوملة. بما يعني حصار مصر من ناحية الجنوب واعادة رسم التوازنات في حوض النيل والقرن الافريقي وأمن البحر الاحمر لصالح الاستراتيجية الاسرائيلية وعلي حساب الامن القومي المصري. واذا اخذنا في الاعتبار الضغوط الناتجة عن ازمة المياة فان الهدف الماثل هو تركيع مصر وإجبارها علي الإنغلاق في صندوق محكم, بما يجعلها تغص بمشاكلها الداخلية وتستمر في الدوران في حلقة مفرغة من المشاكل السياسية والاجتماعية. ضرورات المصارحة والمواجهة تحتفظ مصر بعلاقات تعاونية وودية مع دولة جنوب السودان, وطبقا للسياسات والتحركات المصرية, فان القاهرة تسعي لتشجيع اقامة علاقة تعاونية بين الشمال والجنوب كما تسعي لتشجيع الاستثمار المصري والعربي في جنوب السودان وتقديم المساعادت. ولكن علي الجانب الاخر, ورغم ان البعض يري من الناحية الشكلية ان دولة جنوب السودان لها ان تقيم من العلاقات ما تشاء, ورغم أن هذا صحيح من الناحية النظرية, إلا أنه يجب أن يكون هناك قدر من المصارحة والمكاشفة مع حكومة جنوب السودان, فإقامة العلاقات أمر مختلف عن التحول لمخلب قط أو قاعدة انطلاق لاستهداف شمال السودان ومصر. فدولة الجنوب كما نعرف لا تمتلك مقومات الدولة وعليها أن تركز جهودها علي التنمية والاعمار, وليس علي المزيد من الصراعات والحروب, فهذه الاخيرة ذات نهايات مفتوحة ويمكن ان تشهد نوعا من خلط الاوراق قد لا يستثني أحدا. إن إنشغال مصر بشأنها الداخلي يمثل بلا شك فرصة سانحة للكثيرين لإعادة ترتيب الأوضاع الأمنية والإستراتيجية.. ولذا علينا واجب الإنتباه بقدر أكبر من الحزم والجدية لملفات السياسة الخارجية وقضايا الامن الاقليمي التي تتحرك من حولنا.