لم يكن انفصال جنوب السودان أمرا مفاجئا، حيث كان يمثل الاحتمال الغالب منذ توقيع بروتوكول ماشاكوس فى يوليو 2002، الذى بمقتضاه التزمت الحكومة السودانية بالموافقة على حق تقرير المصير للجنوب وقد ظل هذا الاحتمال يتزايد مع مرور الوقت ، وصولا إلى موعد الإستفتاء فى 9 يناير الماضى والذى صوت فيه الجنوبيون بالاجماع تقريبا للانفصال، لكى تصبح جمهورية جنوب السودان فى 9 يوليو الحالى أمرا وقعا يحظى بالاعتراف الدولى باعتبارها الدولة الحادية عشره فى حوض النيل. بُررت الموافقة على حق تقرير المصير على أساس أنها تمثل حلا نهائيا لمشكلة الحرب الاهلية فى الجنوب، ونُظر اليها أيضا على انها سوف تخفف من أثقال أزمة الهوية التى ظلت محل نزاع بين العروبة والافريقانية من ناحية وبين الاسلام والديانات الاخرى مسيحية او تقليدية من الناحية الاخرى، بإعتبار أن الجنوب كان هو الطرف الرئيسى الحامل والمعبر عن هذا التمايز والاختلاف. وكان من المأمول انه بانفصال الجنوب واستجابة الشمال لهذا الأمر بشكل طوعى وسلمى (حيث لم يكن الجنوب منتصرا فى الحرب عند توقيع اتفاقية نيفاشا) ، سوف يكسب السودان السلام ويوقف نزيف الدم ويتجه إلى التنمية، إلا أنه من الواضح أن هذه الآمال تذهب الآن أدراج الرياح، إذ نشبت الحرب فى جنوب كردفان، بالإضافة إلى أوضاع ولاية النيل الازرق التى لم تحسم بعد. وما زالت هناك ازمة أبيى بكل تعقيداتها، بالإضافة إلى أزمة دارفور التى من الواضح انها مازالت بعيدة عن الحل رغم توقيع اتفاق الدوحة الأخير. كل هذه مشاكل وازمات تقع داخل الشمال الجغرافى، فى الوقت الذى لم تحل فيه أيضا القضايا العالقة مع دولة الجنوب وأهمها الحدود والمياه والأصول والديون وطبيعة العلاقات الاجتماعية والتجارية على جانبى خط الحدود الممتد إلى ما يقرب من 2000 كم . كما بدأت الازمات المتعلقة بقطاع الشمال التابع للحركة الشعبية وعملية تكييف وجوده السياسى ووضعه القانونى وصلته بالدولة الجنوبية فى التأثير على مجريات الاحداث والتفاعلات، خاصة مع سعى الحركة الشعبية لتكريس الفكرة القائلة بانه بعد انفصال الجنوب، سيكون هناك جنوب جديد فى النيل الازرق وجنوب كردفان، فيما بدا للمراقبين من الخارج ان الازمة السودانية بعد حق تقرير المصير قد اتجهت للتحول الى ما يشبه المأساة الاغريقية التى تعيد انتاج نفسها وتتناسل من جديد، حيث يرفع الجميع شعارات تبدو براقة ويتم تحميلها بقيم وقضايا شتى، ولا حصيلة من وراءها الا استمرار القتل والحرب والنزوح بما قد يؤدى فى نهاية المطاف الى تحلل الدولة السودانية وفقدان أى فرصة معقولة لمستقبل افضل لغالبية ابناء السودان الذين يدفعون اثمانا باهظة لاحقاد وعمليات الثأر المتبادلة داخلية أو أجندات خارجية لا علاقة لهم بها فى حقيقة الأمر. والشاهد هنا ان السودان خسر الوحدة وإنشطر الى دولتين دون ان يكسب السلام او الاستقرار على صعيد ازماته الداخلية. إن انفصال الجنوب ليس مجرد نزع ربع مساحة السودان، بما يترتب على ذلك من قضايا وإشكاليات معقدة، بل هو زلزال جيواستراتيجى، حيث انه يمثل السابقة الاولى فى القارة الافريقية التى تقوم على حدود مصطنعة موروثة من الاستعمار. وكانت منظمة الوحدة الافريقية قد اقرت فى عام 1963 مبدأ قدسية الحدود ادراكا منها لما يمكن ان يحدث من فوضى اذا ُفتح باب إعادة ترسيم الحدود، بالنظر الى التداخل القبلى والنزاعات الاثنية المنتشرة بطول القارة وعرضها، واذا إستثنينا الحالة الارترية التى كانت تتمتع بوضعية خاصة من الناحية القانونية، إذ انها كانت تحت الوصاية الاثيوبية بقرار من الاممالمتحدة ولم تكن جزءا من إثيوبيا، فان جنوب السودان يمثل الحالة الاولى فى القارة، التى يشعر معها الكثير من القادة الافارقة بالقلق خشية من ان تتحول الى نموذج يقتدى به فى كثير من حالات النزاع الاثنى والتى قد تمثل حافزا للتحول الى المطالبة بحق تقرير المصير بديلا عن السعى للاندماج والمساوة فى الحقوق. غير أن الاتحاد الإفريقى ودول القارة ككل قبلت بانفصال الجنوب، وبعضها رحب به سواء لتحقيق مصالح ومنافع خاصة مثل اوغندا واثيوبيا على سبيل المثال، او لانه جاء بالتوافق والتراضى بين شطرى السودان ولم يكن هناك مناص من ذلك. إلا أن الأثر الأكبر والمباشر للانفصال سوف يتجلى بلا شك فى منطقة حوض النيل حيث يمكننا ان نلاحظ ان ولادة دولة الجنوب بموقعها الاستراتيجى سوف يؤدى الى إعادة صياغة كل التوازنات الاستراتيجية الواقعة جنوب الحدود المصرية، فدولة الجنوب تتماس مع القرن الافريقى من ناحية الشرق، ومع إقليم البحيرات العظمى الذى يضم المنابع الاستوائية للنيل من ناحية الغرب. ومن البديهى ان اعادة الصياغة للتوازانات القائمة سوف تكون لصالح اهداف واستراتيجيات الدول التى لعبت ادوارا اساسية فى فصل الجنوب، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالامريكية وإسرائيل. كما أنه من الواضح ان هذا التطور سوف يمثل نوعا من الصعود والاستقواء لدولتين اساسييتين فى حوض النيل هما اثيوبيا الساعية الى تأكيد هيمنتها على القرن الافريقى ومد هذه الهيمنة وتأثيراتها الى حوض النيل بأكمله، ثم اوغندا فى اقليم البحيرات التى تسعى فى ظل موسيفنى الى بناء اطار تعاونى فى شرق افريقيا تحظى فيه بدور قيادى متميز فى الوقت الذى لا تخفى فيه مطامعها فى جنوب السودان، الامر الذى يقودنا الى ملاحظة اخرى تتمثل فى أن كلا من اثيوبيا واغندا تحظيان بعلاقة متميزة مع الولاياتالمتحدة وكل منهما تمثل نقطة ارتكاز فى محيطها الاقليمى للاستراتيجية الامريكية، ومن ثم فان الدور الامريكى المهيمن على توجهات دولة جنوب السودان ومعه الدور الاسرائيلى سيقودان فى نهاية المطاف عملية تشكيل التوازانات الجديدة التى سوف تكون على حساب تقليص الدور المصرى وعزله ومحاصرته من الجنوب. وغنى عن القول ان من بين التداعيات والاثار التى سوف تكون مصاحبة لهذه التوازانات الجديدة العمل على استهداف دولة شمال السودان وجعلها فى حالة نزاع وعدم استقرار مستمرين بما قد يؤدى فى نهاية المطاف الى اعادة تقسيمها عبر فصل اقليم دارفور ومنح الحكم الذاتى لمنطقتى جنوب كردفان والنيل الازرق وربطهما بعلاقات خاصة مع دولة جنوب السودان الى ان تستقر الامر على وضعيتها النهائية . هذه الترتيبات إذا تواصلت إلى منتهاها سوف تنعكس ايضا على امن البحر الاحمر، وقبل ذلك سوف تقطع الطريق على اى مسار تعاونى لمصر مع بلدان حوض النيل ، وسوف تزيد من تعقيدات ازمة المياه فى حوض النيل بما يؤدى الى خنق مصر والضغط عليها عبر السيطرة على مقدراتها وحصصها المائية، وذلك على محورين اساسيين: اولهما التحكم فى مشروعات استقطاب الفواقد التى تقع فى دولة جنوب السودان، وثانيهما السماح لاثيوبيا بالمضى قدما فى مشروعاتها المائية على حساب الحق التاريخى وحصة مصر الحالية، و السعى الى تكريس اتفاقية عنتيبى التى تهدف من الناحية الاستراتيجية الى تغيير القواعد الحاكمة لتوزيع المياه فى حوض النيل ومن ثم تعديل واعاداة صياغة الاوزان الاستراتيجية للدول المتشاطئة على النهر لصالح اثيوبيا على حساب مصر، وما القوات الاثيوبية التى ارسلت الى ابيى مؤخرا الا اولى العلامات والإرهاصات فى هذا المسار، حيث تحولت اثيوبيا الان الى فاعل اقليمى جديد لا يمكن تخطيه فى عملية تكييف العلاقة بين شمال وجنوب السودان، وبما سوف يؤدى الى زيادة قدرة اثيوبيا على التحكم فى تفاعلات ازمة المياه لصالح مواقفها الحالية . وعلى ذلك فان مصر سوف تواجه مأزقا استراتيجيا لا يستهان به فى مدى زمنى قصير لا يتجاوز عشر سنوات، ان لم تسارع الى تبنى تحركات نشطة تستثمر فيها الموارد المتاحة الى حدها الاقصى، من اجل انفاذ استراتيجية مركبة تقوم على الحفاظ على تماسك دولة شمال السودان وكذلك مساعدة دولة جنوب السودان على الاستقرار والتنمية بجهد مصرى عربى مشترك، مع السعى بقوة الى خلق وتشجيع علاقة تعاونية بين شمال وجنوب السودان. وفى الوقت ذاته فانه يجب الشروع فى اطلاق مبادرة جديدة لإنشاء إطار تعاونى جديد يؤطر وينظم تفاعلات دول حوض النيل على أسس موضوعية تقوم على اساس الاعتراف بالمصالح المتبادلة والسعى الى تحقيق منافع متوازنة للجميع بعيدا عن الاجندات الخارجية التى لن تجلب الى المنطقة الا الصراع والدمار والتخريب.