يخفي عبد الباري عطوان رئيس تحرير القدس العربي في نفسه من حب مصر أضعاف ما يبديه,لأنه يوقن أنه هيهات للقطرة أن تصف البحر, ولحبة الرمل أن تصور الجبل, وللكلمات البسيطة أن تعبر عن المعاني الجميلة. يدين لمصر في كل ما وصل إليه لأنها هي التي منحته الشهادة الجامعية التي فتحت له آفاق العمل, واحتضنته وملايين غيره ليقيموا فيها آمنين مطمئنين. عطوان حط الرحال في قاهرة المعز بعد ثمانية عشر عاما من البعاد عنها, ليشارك في مؤتمر عن القومية العربية, قابلناه وأجرينا معه هذا الحوار الذي يؤكد فيه أن خطأ القوميين العرب الأكبر ارتكازهم علي ثوابت يسارية, وليست ثوابت إسلامية, معتبرا أن الهزيمة لا تقاوم إلا من مصر,وكل ما يحدث للمنطقة العربية من نكسات سببه غياب الدور المصري الفاعل, وإلي تفاصيل الحوار. تتوالي الهزائم علي الأمة, ونعرف أنك عروبي حتي النخاع, برأيك كيف نقاوم الهزائم المتتالية للأمة؟ الهزيمة يجب أن تقاوم بالعمل والإنتاج, وباستشعار حالة الهوان التي نحياها, وبإنشاء جامعات حديثة, وباستيعاب التكنولوجيا, والاستفادة من تجارب الأمم( الهند و البرازيل وتركيا) مثلا, التي حققت قفزات اقتصادية كبيرة. أذكر أنني سألت مرة رئيسة فنلندا- التي لا يخلو بيت في العالم من جهاز نوكيا فنلندي-: كيف أنجزتم هذه النهضة الاقتصادية الضخمة؟ فقالت: وضعنا أمامنا هدفا محددا وهو( الاختراع والمنافسة) ونسينا التعليم القديم, وبدأنا في تعليم من نوع جديد يشجع علي الإبداع والاختراع والمنافسة, وكان لنا ما أردنا. الأمل موجود لنهضة العرب إذا وجدت القيادات الواعية التي تشجع قيم العمل, ووجد في ذات الوقت الشعب الذي يتجاوب مع القيادة. والهزيمة لا تقاوم إلا من مصر,وكل ما يحدث للمنطقة العربية من نكسات سببه غياب الدور المصري الفاعل, وحالة الشلل والجمود التي تعيشها مصر منذ نحو أربعين عاما. نتمني أن تنهض مصر,وأن تستعيد دورها وقيادتها, وهذا لن يكون علاجا لمصر فقط, وإنما علاج لمعظم أمراض المنطقة العربية, لأن مصر هي القاطرة والرافعة, وإذا نهضت ستكون إسرائيل في مأزق, لأنها هي العدو الأول, وشريان الحرب أو السلام لإسرائيل هو مصر. مصر الآن تستعيد دورها بشكل تدريجي, لأن الشعب المصر ي أصبح هو صاحب السلطة, وسيغير هذا خريطة المنطقة بأكملها. عقد مؤتمر للقومية العربية الآن ألا يعد مثارا للسخرية والأمة العربية علي ما فيها من تشرذم وصراع؟ لنعتبره مظاهرة من أناس ربما لديهم حلم بوحدة واتحاد عربي. حلم أم وهم؟ لنقل حلما حتي لا نظلمهم, فنياتهم صادقة وطيبة في تحقيق هذا الحلم, ولديهم حنين لذلك, وللأسف فإن تحقيق هذا الحلم في ظل هذا الوضع العربي يتضاءل إن لم يكن منعدما. وهؤلاء اعتنقوا فكرة القومية العربية بسبب مصر وبسبب جمال عبدالناصر, وجاءوا إلي مصر الآن ليحتفلوا بمصر وثورتها, إذن فهو احتفاء واعتراف بمصر ودورها وقيمتها, أكثر من أي شيء آخر. ما أسباب عدم التقاء القوميين بالإسلاميين علي كلمة سواء إلي الآن, وبم تفسر الصراع الذي يحدث بينهما؟ المؤتمر القومي العربي كان يجمع أطيافا كثيرة, وكان حسن نصر الله عضوا فيه, وراشد الغنوشي' الذي وضع كتابا في الوحدة العربية, وعصام العريان, وبعد احتلال العراق, وبعد أزمة الكويت علي وجه التحديد, برز مشروع غربي لتدمير الأمة العربية, هذا المشروع كان الرد عليه مشروع وحدة بين القوميين والإسلاميين, وأنا أفتخر بأنني كنت أحد الدعاة لهذه الوحدة, بدأتها بالمؤتمر العربي والإسلامي بالخرطوم, وأكملتها بمقالة في مجلة' المستقبل العربي' كانت تقديرا فكريا لفكرة الوحدة بين القوميين والإسلاميين, و تحدثت فيها عن ضرورة الوحدة, والاعتراف بالأخطاء المتبادلة, والاندماج بينهما, وانهاء القطيعة والخلاف. وكنت وما زلت أري أن القومية العربية لابد أن ترتكز علي ثوابت إسلامية, وأكبر خطأ ارتكبه بعض القوميين العرب أنهم جعلوا المنطلق الفكري للقومية العربية يساريا وليس إسلاميا. المقاومة الفلسطينية هل أماتها الخلاف المخزي بين فتح وحماس أم ماذا؟ المقاومة الفلسطينية يمكن أن نقول عنها الآن إنها في حالة بيات, والمقاومة الفلسطينية تحتاج إلي عمق ودعم عربي, وفلسطين قضية عربية إسلامية, وإذا نظرنا إلي الدول التي يمكن أن تدعم فلسطين سنجدها إما مصر أو سوريا أو العراق, هذه الدول الثلاث هي التي يمكن أن تعطي عمقا وسندا للمقاومة الفلسطينية, فإذا كانت هذه الدول مضروبة الآن( سوريا بها حرب, والعراق مقسم ومفتت طائفيا وجغرافيا, ومصر تمر بمرحلة انتقالية) ويجب ألا نجرها إلي حرب أو صراع إذن المقاومة الفلسطينية الآن في حالة جمود مؤقت,إضافة إلي ذلك فإن السلطة الفلسطينية في رام الله لا تريد مقاومة, عباس قال أكثر من مرة إنه لن يسمح بانتفاضة ثالثة, ولن يسمح بعودة المقاومة, ويتمسك بالتنسيق الأمني مع إسرائيل, ويتباهي بأنه سلم عدة جنود إسرائيليين بأسلحتهم إلي إسرائيل, وأنه لن يمارس الخطف مثل الآخرين, إذن نحس بأن السلطة في رام الله لا تريد مقاومة ولا حلا عسكريا علي الإطلاق, حماس لا تريد أن تثقل علي مصر في مرحلتها الانتقالية الصعبة, وما تشهده من صراع. كان الإبداع الفلسطيني إلي وقت قريب يهز إسرائيل هزا, وكلنا نذكر قصيدة' عابرون' لمحمود درويش, هل قصر الابداع الفلسطيني, أم فقد الحجر معناه؟ الابداع الفلسطيني جاء مع المقاومة,انظر مثلا إلي غسان كنفاني, محمود درويش, إدوارد سعيد, سميح القاسم.. إلخ. اتفاقية أوسلو قتلت الإبداع الفلسطيني وأصبح معظم الأدباء والشعراء الفلسطينيين معها,فلم يصدر إبداع حقيقي, وهذا شيء مؤلم جدا, لأننا لسنا شعبا طبيعيا, فأرضنا احتلت, واغتصبت. أكذوبة السلام خدعت كثيرين, وأصبح الإنسان الفلسطيني الآن يرشي من خلال مساعدات الدول المانحة,وكل هذا خلق صراعا يقتل الإبداع بطريقة أو بأخري. علي من تعول في التغيير في العالم العربي؟ نعول علي مصر, وعلي التجربة المصرية, ونتمني لها النجاح, لأن مصر هي الأكثر تأثيرا في محيطها الجغرافي العربي. ومصر هي المحور الأساسي للتأثير والتغيير في العالم العربي, لذلك الكل في الوطن العربي يراقب التجربة المصرية, والشعوب العربية تتمني نجاح التجربة المصرية, لتنتقل العدوي إليها. توقعت حربا إقليمية في المدي القريب, ما هي حيثياتك في ذلك, وهل بنيت ذلك علي معلومات أم ماذا؟ الوضع الحالي في سوريا لا يمكن أن يستمر, ولا يمكن أن يحسم من خلال القوي الحالية علي الأرض, إذن لابد من تدخل خارجي, أو حرب أكبر, لحسم الأمور لمصلحة ذلك الطرف أو ذاك, الآن توجد حرب ساخنة بين روسيا وأمريكا في سوريا, هل يتطور هذا إلي مواجهات داخلية بين القوي أمريكا وأوروبا وروسياوتنجرإيران والسعودية إلي الحرب, هذا وارد. لدي معلومات وثيقة أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر,ويجب أن يحسم عسكريا. الشيء الثاني المرجح للحرب الملف النووي الإيراني, لأن إسرائيل لن تقبل بإيران دولة نووية,و أوباما قال إنه لن يسمح بإيران دولة نووية, وحسب التقديرات الأمريكية والإسرائيلية, فإن إيران مع نهاية هذا العام ستمتلك الأسلحة النووية, مع ذلك إما أن يتعايشوا ويتعاملوا مع إيران كدولة نووية, وأري أن هذا الاحتمال فرصه ضئيلة جدا, وإما أن يحسموا هذا الملف بضربات عسكرية, وهذا هو الأرجح, لأن إسرائيل تتأهب منذ فترة لتلك الحرب الضروس. في حال إذا وقعت الحرب,كيف تري تأثيراتها علي مصر والمنطقة؟ أعتقد أن مصر ستكون الأقل تأثرا, لأنها للمرة الأولي ستكون خارج اللعبة, وخارج الصراع الذي سيتأثر إسرائيل ودول الخليج والأردن, والعراق. وربما ستكون هذه هي المرة الأولي في حروب المنطقة أن تكون مصر في مأمن, ولا أدري أهذا من حسن حظها أو من سوئه. كيف تري القضية الفلسطينية الآن في وجدان الشعوب العربية والإسلامية؟ للأسف الشديد تراجعت القضية الفلسطينية بشكل مؤسف,ولم تعد القضية التي يتوحد عليها العرب. وقد لاحظت في دول الخليج أن العدو الأول في نظرهم هو إيران وليست إسرائيل. والصراع في منطقتنا العربية للأسف الآن هو صراع طائفي, بين سنة وشيعة, وهذا دمار للمنطقة, ودمار للجانبين العربي والإيراني, ودمار للأمة الإسلامية كلها. برأيك ما الأشياء المسكوت عنها في ثورات الربيع العربي؟ الأشياء المسكوت عنها في ثورات الربيع العربي قضية فلسطين, للأسف لم تبرز قضية فلسطين في ثورات الربيع العربي بالشكل المطلوب, نعم علم فلسطين رفع في ميادين كثيرة في بلدان الربيع العربي ومنها ميدان التحرير, إلا أن القضايا المحلية وقضايا حقوق الإنسان والحريات والعدالة الاجتماعية هي المسيطرة وليست قضية فلسطين. الشيء الآخر المسكوت عنه في ثورات الربيع العربي هو الصراع الطائفي الذي بدا جديدا, للأسف الربيع العربي أدي بشكل مباشر إلي التقسيمات الطائفية والمذهبية في سوريا, وهذا أمر خطير جدا, لأن الربيع العربي يجب أن يكون فوق الطوائف, وأن يكون توحيدا لكل ألوان المجتمع الديني والمذهبي والثقافي, ولكن للأسف لم يحدث هذا. كيف تري مكاسب وإخفاقات الإعلام من ثورات الربيع العربي؟ الإعلام العربي شهد ربيعا مختلفا, حقيقة الإعلام لعب دورا كبيرا في الثورات العربية, لكنه في نفس الوقت عاني في ذلك. والإعلام العربي مر بثلاث مراحل أساسية: الأولي كانت مرحلة الإعلام الرسمي المكبل والمقيد لقضايا التعبير, والذي قدم الرأي الواحد فقط وبطريقة غير مهنية علي الإطلاق. المرحلة الثانية مرحلة الجزيرة وأخواتها, والتي أنفق عليها أموال غير عادية, فقضت علي الإعلام التقليدي, وأعطت مساحة كبيرة من الحرية والمهنية, ودعمت محطات مثل( الجزيرة والعربية) بأموال لا تعد ولا تحصي. المرحلة الثالثة مرحلة الاعلام البان عرب تراجع الآن لمصلحة الإعلام المحلي, الذي نجح في تقليص أدوار فضائيات مثل الجزيرة والعربية. لكن هذا الإعلام للأسف الشديد الضوابط المهنية فيه ضعيفة, وأنا مصدوم من الألفاظ والاتهامات التي نراها في حوارات التوك شو,وأنا كإنسان يعيش في بريطانيا ويخضع لقانون السب والقذف, أكاد أجزم بأن مثل هذا الإعلام لو خضع لقانون السب والقذف لأفلس. نعرف أنك قابلت زعماء كثيرين من مختلف أنحاء العالم, تري ما انطباعاتك عنهم؟ قابلت معظم الرؤساء العرب, باستثناء الرئيس حسني مبارك الذي لم يكن لي ودا علي الإطلاق, وكنت أول من وقفت ضد التوريث. قابلت ثاتشر, بلير, كاميرون, الملك حسين, الملك عبد الله( الأردن) القذافي, بوتفليقة, علي عبد الله صالح, كل منهم كان له أسلوب مختلف, ولكن الشيء الذي كان يجمع بينهم أنهم يخافون ولم يكونوا صرحاء, لذلك عزفت عنهم وعن مقابلاتهم منذ أكثر من خمسة عشر عاما, قد أقابلهم وأتحاور معهم, وأستمع إليهم, ولكن لا أنشر مقابلات صحفية, ولكن ربما أستخدمها في مقالاتي. آخر حديث قمت بإجرائه كان مع علي عبد الله صالح, ولم اجد في الحديث شيئا يستحق النشر, فكتبت مقالا عن متحف كان يقيمه لهدايا الزعماء العرب, فمثلا جورج حبش أهداه بيتا مجسما من الذهب, والملك فهد أهداه مبخرة ضخمة من الذهب,وأطرف الهدايا كانت لياسر عرفات, والتي كانت كلها مجسمات لقبة الصخرة. وكانت توجد هدية طريفة أيضا كانت عبارة عن دورقين من النبيذ المعتق, فاستفسرت عن هذه الهدية, فقال هذه من القيادة الصينية, وحدث أن كتبت مقالا عن هذه الهدايا, ووصل العدد إلي اليمن, وكانت المقدمة عن النبيذ المعتق, فصور اليمنيون المقدمة, وصاروا يبيعونها منفصلة عن الجريدة, وانتشرت النار في الهشيم, فاستدركت الحكومة اليمنية الأمر, وسحبت أعداد القدس العربي من السوق,لأن الجماعات الإسلامية استنكرت: كيف لرئيس يمني مسلم أن يقبل هدية من الكحول؟! وحدث اتصال مع الرئيس اليمني بعدها, فقال ضاحكا: خربت بيتي! فسألته: ماذا حدث في الكحول؟ فقال: كسرناه, ولكن عرفت بعدها أن أحد الماركسيين حصل عليه, واستمتع به.