ماذا جري للمصريين؟.. لقد أصبح العنف لغة التفاهم بين الناس علي اختلاف ثقافاتهم, وشهاداتهم العلمية, ومستوياتهم الاجتماعية والمادية, خناقات في كل مكان, لا أحد يعطي فرصة لمن يختلف معه في الرأي للتعبير عن رأيه. فالحوار صار بالأيدي.. والأسلحة البيضاء وحتي النارية أصبحت سهلة المنال والاستخدام في ظل غياب هيبة الدولة, وتراجع سطوة القانون, وضعف الأداء الأمني.. عامة جرائم العنف- كما يقول الدكتور عادل عامر أستاذ مساعد القانون العام بكلية الحقوق جامعة طنطا ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية- تقف وراءها عدة شرائح, لاسيما تلك التي تتميز بقلة الوعي وضعف الوازع الديني الذي يمحو فكرة التسامح من قاموسهم, كما تسجل في وسط الفئات ذات المستوي التعليمي المتدني أكثر منه لدي الفئات المتعلمة, لكن هذا لا ينفي أن بعض المثقفين ذوي المراكز يقدمون علي ذلك من خلال الاعتماد علي وسطاء للحفاظ علي سمعتهم ولتجنب ترك أي أثر للجريمة, كما أن الاستفزاز الحاصل في الشوارع كثيرا ما يكون بوابة للشجارات التي تولد نزعة الانتقام. وهكذا يلاحظ من خلال العديد من النماذج المتعلقة بالإجرام أن الخيط الرابط بين هذه الجرائم يتمثل في الضغينة والثأر والحقد والكراهية, وهي الشرارة التي تولد سيناريوهات انتقام باتت تتخذ عدة صور من الأفعال الإجرامية, كالضرب والجرح والاعتداء علي ممتلكات الغير, أو تشويه السمعة تحقيقا لعدالة قاسية. وعلي مستوي حياتنا الاجتماعية اليومية, فإن العنف يدخل كمفردة تغطي نطاقا واسعا من السلوكيات متنوعة المظاهر والتي تلحق الأذي بالآخر, ولم نجد فسحة في حياتنا خالية من مظهر من مظاهر العنف بأي شكل من الإشكال والمؤكد أن أسباب العنف التي رصدها الدكتور محمد المهدي أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر في رؤيته التحليلية لظاهرة العنف في المجتمع المصري قبل سنوات, لا تختلف كثيرا عن تلك الأسباب التي تحرك العنف في الشارع المصري حاليا, فالعنف لهأسباب نفسية كالإحباط: وهو أهم عامل منفرد يؤدي إلي العنف, ولدي الشعب المصري كم هائل من الإحباط علي مستويات متعددة, ثمالتلوث السمعي والبصري والأخلاقي, متمثلا في الضوضاء والصخب والقاذورات والأخلاقيات المتدنية في الشوارع والميادين مما يخالف الطبيعة الهادئة والنقية التي اعتادها الشعب المصري في مراحل سابقة من تاريخه,وفقدان الأمل في المستقبل خاصة لدي طبقة الشباب الذين قضوا سنوات طويلة في التعليم, ثم اكتشفوا أنهم يحملون ورقة( شهادة) لا قيمة لها والاختناقات المرورية وتفشي العشوائيات, وقد تبين من خلال التجارب العملية أنه كلما ضاقت هذه المساحة زادت دفعات العنف لدي الأفراد, ثم شيوع عدد كبير من القيم السلبية مثل الفهلوة والانتهازية والنصب والاحتيال والكذب ومحاولة الكسب السريع بغير جهد أو بأقل جهد, والرشوة والمحسوبية, والظلم الاجتماعي, بالإضافة إليالأسباب الدينية والطائفية, كتنامي الفكر الديني الاستقطابي الذي يكفر الآخر أو يفسقه أو يلغيه ويستبعده, وتنامي النزعات الطائفية في غياب الانتماء الوطني العام, وضعف الحكومة والأحزاب السياسية, و ضعف التربية في المدارس. هكذا حلل الدكتور محمد المهدي ظاهرة العنف في مصر قبل سنوات, ولكن بعد الثورة, صار العنف والبلطجة جزءا لا يتجزأ من سلوكيات الشارع المصري, وبالرغم من قدم الظاهرة, فإن أعمال البلطجة امتدت وفقا للدكتورة فادية أبو شهبة أستاذ القانون الجنائي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية- إلي الشوارع الرئيسية والعامة, ومن ذلك عمليات سرقة السيارات التي كانت- ولا تزال- تتم علي الطريق الدائري, كما وصلت البلطجة إلي الحرم الجامعي, وقد بدأت أعمال البلطجة تأخذ شكلا جماعيا وأكثر تنظيما, مشيرة إلي أن نحو50% من البلطجية الذين خضعوا للدراسة التي أجرتها- تتراوح أعمارهم بين18 و30 عاما, وهو ما يعني أنها ظاهرة تجذب من هم في سن المراهقة, ومن هم في المراحل الأولي من الشباب, كما أن ثلثي البلطجية من الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة, ويتركز أغلبهم في محافظات القاهرة, وبورسعيد, والشرقية, بينما تضم محافظات الوجه البحري31%, وتضم محافظات الوجه القبلي نحو24% من البلطجية, بينما تقل ظاهرة البلطجة في المحافظات الحدودية والتي تشمل شمال وجنوب سيناء, ومطروح وأسوان, كما أن55% من المسجلين خطرا يعودون إلي الجريمة بعد الخروج من السجن وقضاء مدة العقوبة. الحل يبدأ من هنا في المقابل, تطالب د. فادية أبو شهبة بالتوزيع العادل للثروة الوطنية, ومحاربة البطالة, وإيجاد فرص العمل لغير القادرين, ومواجهة خطر سوء الأوضاع الاجتماعية, وإعادة النظر في الدور التربوي للأسرة والمدرسة لتكوين الشخصية الاجتماعية السليمة, وينبغي علي الدولة الاهتمام بالمسكن باعتباره عامل توازن في السلوك الإنساني, والاهتمام بالتدريب المهني لصغار السن, لتقليل احتمالات التردي إلي الإجرام. الحوار الإيجابي أما الدكتور محمد المهدي استاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر فيري ضرورة دراسة حالات العنف بصورة علمية مستفيضة, وتبني الحوار الصحي الإيجابي لإعطاء الفرصة لكل الفئات للتعبير عن نفسها بشكل منظم وآمن, إلي جانب أهمية العلاج الدوائي, كما يمكن أن تلعب السلطة الأمنية دورا مهما في مكافحة العنف من خلال الالتزام الكامل بالقوانين العادية وبحقوق الإنسان في التعامل مع المواطن, والابتعاد عن الصراعات السياسية والطائفية, واستعادة ثقة المواطن في أجهزة الأمن وتشجيعه علي أن يكون عونا لتلك الأجهزة في السيطرة علي المجموعات الإرهابية والخارجين علي القانون, واستعادة الدور التربوي لوزارة التربية والتعليم, وتطوير منظومة التعليم, بينما تتمثل مسئولية الإعلام في إشاعة قيم التسامح والصدق والعدل والرحمة, وإعطاء الفرص المتكافئة لجميع الأطياف السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية للتعبير عن نفسها بحرية دون حجر أو وصاية أو إلغاء أو استبعاد, أما المؤسسات الدينية فعليها مسئولية إشاعة قيم المحبة والقبول للآخر, وممارسة الأنشطة التربوية والدينية والثقافية, إلي جانب ضرورة الكف عن الشحن الطائفي خاصة بين الشباب ثقافة التسامح وإذا كانت الدكتورة سميحة نصر الخبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية قد كشفت في دراسة لها حول العنف في الحياة اليومية في المجتمع المصري أن القضايا التي تفجر العنف في جميع أنماطه ودرجاته, قد تركزت حول الماديات, والخلاف في الرأي والعمل, ومشكلات الأبناء, حيث ظهر العنف لدي الريفيين حول الأعباء الزائدة ومشكلات العمل, بينما ظهر العنف البدني بشقيه علي التوالي حول الاحتكاك في وسيلة مواصلات, والنزاع علي ملك أو ميراث, وكان الذكور يمارسون العنف بسبب موضوعات خلافية تدور حول الخلاف في الرأي ومشكلات العمل والماديات, بينما تمارس الاناث العنف بجميع درجاته بسبب الأولاد, ومن ثم توصي الدكتورة سميحة في دراستها بضرورة تبني استراتيجية لضبط العنف تقوم علي التخلص منه, وكذلك دعم روح التعاون والتسامح لدي المواطن المصري علي المستويات التعليمية والتربوية والإعلامية, فضلا عن الحد من الضغوط المؤسسية, خاصة الاقتصادية والضغوط الناتجة عن الكثافة السكانية, واستغلال المخزون المجتمعي المضاد للعنف.