حفظناها ورددناها...لكننا لم نعمل بها. إنها مقولة درء المفاسد مقدم علي جلب المصالح. قاعدة فقهية توافق الشرع والعقل.لكن ها نحن نري تيار الإسلام السياسي وهو ينتهكها والتيار المدني وهو يخالفها. باتت مصر للأسف علي بعد أيام من لحظة خطر كبري. ولأن الوقت يضيق وخطاب الوعيد يسود واستعراض القوة يمضي, فقد لا يكون درء المفسدة الآن ممكنا. يكفي تقليل الضرر المتوقع منها, وقد يكون بالغا إذا لم يتراجع الجميع خطوة أو أكثر إلي الوراء. فإذا لم ينزل الجميع بسقف مطالبه فقد ينزل سقف الوطن لا قدر الله فوق رأس الجميع. سلطة الحكم الإخوانية لم تجد سببا لجر شكل الناس إلا وأتت به. عينت مثلا وزراء دون المستوي ومحافظين بعضهم والعدم سواء. واصلت حوارات الظلام مع جماعتها وأهملت في النور مجتمعها. سارعت من خلال مجلس شوري حصنته إلي سن قوانين لا تجرؤ حتي المجالس النيابية المنتخبة بشرف ووضوح علي مناقشتها بمثل هذا الارتجال والتسرع. أذاعت أسرار الدولة علي الملأ. كذبت في أرقام توريد القمح ولم تتق الله والوطن في إقليم قناة السويس.لم تحم حدود الوطن من قتلة يتسللون عبر السراديب. سلطة يفترض أن تكون مرجعيتها الإسلامية قد علمتها أن درء المفاسد مقدم علي جلب المصالح لكن أفعالها تظهر أنها لم تجلب مصلحة ولم تدرأ مفسدة. والمعارضة بدورها لم تترك خطأ في السياسة إلا واقترفته. تدعو المصريين إلي الالتفاف حولها وهي منقسمة علي نفسها. يكفي أن نتذكر أن السيدين أبو الفتوح وصباحي كانا بإمكانهما أن يجنبا المصريين الاختيار بين شفيق ومرسي لكنهما لم يفعلا. معارضة لم تصنع في عامين ما صنعته حملة تمرد في أسابيع. وتستمرئ الآن أن تركب علي أكتافها وعلي أكتاف الشباب الذين يجب أن ينتبهوا فلا يكرروا أخطاءهم بعد11 فبراير2011 ويتركوا النصر الذي صنعوه بكفاحهم لرجال أكثر من نصفهم يجب أن يحال إلي المعاش السياسي. وإذا كان استفزاز الإخوان يدفع بالمعارضة إلي التصعيد, إلا أن تلك المعارضة تصعد أحيانا أكثر مما يجب دون روية أو تقدير ثاقب للأمور. فقد رفعت السقف وها هي تطالب بإسقاط الرئيس. حسنا وما البديل؟ ما الذي فكروا فيه في اليوم التالي؟ ماذا لو جاء رجل منها؟ ألن يثير ذلك غيرة زملائه المعارضين. ألن يقوم الإخوان والإسلاميون بإفشاله مثلما يشعرون الآن بأن قوي المعارضة تريد أن تفشل أول رئيس أتي من تيارهم؟ ماذا عن العنف الذي قد يقع فيقود إما إلي تدخل إجباري للجيش أو إلي حمامات دم وضغائن سياسية تعيش معنا لسنوات طويلة؟ لم يعد الوقت يكفي لدرء مفسدة. المرجو أن يكفي فقط لتقليل مضارها. مطلوب ميدانيا ومن وزارة الداخلية بالتحديد أن تثبت أنها مؤسسة دولة وليست مؤسسة نظام. عليها أن ترفض الأوامر السياسية الملاكي حتي لا تتجدد كراهية المصريين لها. وها هي فرصة تاريخية أتت لها لكي تسترد ثقة المصريين فيها من جديد. فالمصري اليوم يتنشق علي رجل الشرطة في الشارع لأنه يمثل صوت الأمان. لكنه يشمئز ويثور لو رأي أن رجل الشرطة يقف من جديد مع النظام ضد الشعب. فمؤسسة الشرطة لم تولد إلا لكي تكون مستقلة عن من في الحكم ومن في المعارضة. فهي مؤسسة دولة وليست مؤسسة سلطة أو متطلعين إلي السلطة. إن حيادية ومهنية الشرطة خلال التظاهرات الكبيرة القادمة ستكفي الجيش مئونة التدخل في الشأن السياسي وما قد يتبع ذلك من تداعيات قد تزيد الأمر تعقيدا. أما سياسيا فالأمل وإن كان ضعيفا يبقي قائما في أن يتحدي رئيس الجمهورية نفسه وأن يختار نهائيا بين الجماعة والمجتمع. فهو إلي الآن القائد. والناس تري أن جماعته تغرقه برغم أن مجتمعه مد له يد العون فأوصله إلي الموقع الذي هو فيه. لا بد للرئيس أن يتذكر أن القائد الذي يلين لمعارضيه ليس ضعيفا بل قوي, وأن الرئيس الذي يستجيب للناس يوقره الناس. لست واثقا في أملي هذا لكن ليس أمامي إلا أن أتعشم فيه. أتعشم أن يختلي الرئيس بنفسه ليحاسبها بعيدا عن قيود التنظيم وأفكار الإخوان لكي يقرر ما يجب عليه أن يفعله ولم يعد ربما أمام لحظة انفجار كبري سوي بضعة أيام. أتمني أن يخرج للناس ليقول لهم بشجاعة لقد خالفت اتفاق فيرمونت, ولم اختر أفضل تركيبة سياسية ولم أحسن إدارة العلاقة مع القضاء وتعجلت قبول وثيقة الدستور. لو فعل فسيكسب مصر وراءه. والمعارضة يجب لو تشجع الرئيس علي تلك الخطوة أن تشجعه أكثر بالنزول بسقف مطالبها. مطلوب منها أن تساعد مرسي الثاني حتي يغير صورة مرسي الأول. ومطلوب منها أيضا أن تدرك أنها بدون الاخوان والسلفيين والإسلاميين عموما لن تستطيع إدارة شئون مصر تماما مثلما أنهم لا يستطيعون بدونها أن يديروا شئونها. لقد وقعت المفسدة بالفعل لما يزيد عن عامين وتقليل الضرر منها يحتاج إلي ساسة يفهمون أن مصر لا تقبل في هذه المرحلة العمل بنخبة حكم ونخبة معارضة وكأن الوضع في بلدنا بات عاديا. الوضع ليس عاديا وإنما ثوري وانتقالي يحتاج لخمس سنوات علي الأقل إلي مجلس رئاسي مصغر وحكومة ائتلافية موسعة. لست متفائلا من أن أي اقتراح لتقليل الضرر سيجد آذانا صاغية. لكن يبقي الرجوع دائما إلي الحق خير من التمادي في الباطل. لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات