خلال الفترة القصيرة الماضية, نظم مكتب العمل الدولي بالقاهرة ورشة عمل موسعة لعرض التجربة التركية في مجال التعاونيات. وكانت المناسبة هي عودة عدد من الخبراء التعاونيين والزراعيين والفلاحين المصريين الذين دعاهم المكتب لجولة تعاونية تركية تعرفوا خلالها علي أنشطة الحركة التعاونية في أزمير في تركيا ودرسوا أبعادها الاقتصادية والاجتماعية. وكما هو معروف كان عام2012 هو عام التعاون العالمي الذي نشطت فيه الأممالمتحدة ومنظماتها المتخصصة ومعها بلدان كثيرة لتنظيم مجموعة أنشطة لتنبيه الرأي العام بأهمية التعاون, كجانب من الاقتصاد الاجتماعي التكافلي, بعد أن باتت الحركة التعاونية شريكة أساسية في الاقتصاد الوطني في عدد كبير من البلدان. كما بات الاقتصاد التعاوني يضم مليون مواطن علي مستوي العالم. وقد سعيت لهذه الورشة وسعدت بها لأنها تأخذنا بتجربتها إلي أحد أسباب الصعود الاقتصادي لتركيا. وقد يكون هذا العامل قد غاب عن حكامنا الجدد الذين لا يملون السفر إلي تركيا والعودة منها, أحيانا لأسباب سياسية وأحيانا لأسباب تجارية تعود علينا بزيادة طرح السلع الاستهلاكية من ملابس, ومفروشات وموبيليا لتملا أسواقنا المحلية وتغلق وحداتنا الصغيرة والمتوسطة( كما يحدث الأن في صناعة الموبيليا في دمياط).وسعيت إليها لأننا شبعنا إعجابا بالتجربة التركية التي قيل إنها استطاعت أن تحل الصراع بين الحزب الديني وبين الجيش العلماني. كما قيل إنها حلت المشكلة بين قيادة الحزب الديني والمجتمع العلماني. أمور كلها هامة ولكنها تستمر سياسية فوقية لا تصل إلي عمق التجربة التركية الممتدة التي هي من أدوات الصعود الاقتصادي التركي. هذا ما غاب عن حكامنا الجدد وهو بالتحديد ما أراد مكتب العمل الدولي في القاهرة اظهاره للوفد المصري بعد أن سبق ودعا أحد خبرائه التعاونيين الكبار لدراسة الواقع المصري.. وكان أيضا من تركيا.ولكن كانت المفاجأة عندما قامت الدنيا في ميدان تقسيم في استنبول فشدت انتباهي إلي هذه التركيا من جانبها الديمقراطي بالإضافة إلي جانبها الاقتصادي. وخاصة بعد أن بدأت الأحداث بمناهضة مشروع تعديل ميدان تقسيم بحيث تسحب الحكومة منه مساحة كانت دائما ساحة للتعبير عن الرأي عن مطالب سياسية تخص حريات التعبير والحركة. ووضحت تركيا للجميع أنها بتجربتها الاقتصادية البراقة تعوم علي مشاكل سياسية قد تعصف بكل الانجازات الحادثة من حزب العدالة والتنمية خاصة في علاقة حكومة الحزب بالإعلام والاعلاميين والصحفيين العاملين في الأداة الرئيسية لحرية التعبير كما في علاقتها بالشباب. تستحق التجربة التعاونية الزراعية وغيرها من القطاعات التعاونيةالتركية الدراسة الجادة لأنها بالفعل تشير إلي نجاح في المساهمة في الاقتصاد الاجتماعي للدولة وإلي حل الكثير من المشاكل الزراعية في بلد يشكل الجانب الزراعي فيه مكونا اقتصاديا هاما بجانب الجانب الصناعي الذي هو في الأساس قطاع صناعي تحويلي استهلاكي كذلك بجانب السياحي الريعي الذي استفاد من الهزات الداخلية في بلدان الشرق الأوسط. ولكنها لا تملك قطاعا اقتصاديا ملحوظا في مجال المعلومات أو الصناعات الثقيلة. كما يجب الأخذ في الاعتبار أن تركيا عضوا في حلف الأطلنطي منذ بدء تكوينه ولكنها لم تدخل الاتحاد الأوروبي.وربما لأنها عضو في حلف الأطلنطي فإنها تأخذ نصيبا من الاستثمارات الأوروبية.وربما تكون الاستثمارات بهدف الإبقاء علي العمالة التركية داخل البلاد بعد أن انتشرت في كل أوروبا. لقد اتضح ويتضح كل يوم أن حركة الاستثمارات لا تتحرك بالصدفة. ولكن في نفس الوقت تستحق التجربة الديمقراطية التركية نصيبا من دراستنا واهتمامنا حتي لا نكرر التجربة المعروفة, نتقدم اقتصاديا ونتراجع سياسيا وتكون النتيجة أن تلتهم الأخطاء الانجازات. من خلاصة رحلة الخبراء المصريين إلي أزمير يمكن القول إن التعاونيات الزراعية في تركيا بدأت تحديدا في عام1863 أي قبل أن يطلق فكرتها عمر لطفي في مصر بعدة عقود. أطلق عمر لطفي فكرة التعاونيات في مصر عام.1908 في ذلك العام في تركيا, أي عام1863, تأسست أولي التعاونيات التي نمت تكون الآنالاتحاد الاقليمي لتعاونيات الائتمان الزراعي. وسار التنظيم التعاوني في سلسلة يبدأ بتجميع المنتجين ليتصاعد في كل مراحل العملية الانتاجية والائتمانية والصناعية والتجارية إلي أن يصل إلي عمليات التسويق الداخلي والخارجي. في أزمير, حيث كان المصريون يدرسون التجربة, توجد سلسلة من التعاونيات تبدأ كما قلنا بتعاونيات المنتجين لفاكهة التين تعتبر تركيا من أكبر منتجي فاكهة التين والزيتون ومنتجاته من زيوت وزيتون مصنع ثم تعاونيات منتجي الألبان ثم تعاونيات منتجي الزهور. ومع وجود هذه الانشطة التعاونية انتشرت الفكرة لتساعد الصيادلة للعمل في إطار تعاوني فتشكلت تعاونية للصيادلة التي بلغت تعاملاتها المالية عامي20132012. مبلغ833 مليون ليرة تركية. هذه التعاونية الأخيرة تدخل ضمن تعريف التعاونية الخدمية. بعد تأسيس أول تعاونية لمنتجي فاكهة التين, عاما بعد عام وعقدا بعد عقد استمر انتشار التعاونيات. في عام1914 تأسس المكتب الرئيسي لإنتاج التين للتنسيق بين الجمعيات المحلية وفي1915 تأسس مرفق معالجة وتصنيع التين وفي عام1979 تأسست تعاونية الصيادلة وفي عام2000 تأسست تعاونية منتجي الزهور. فالحركة التعاونية تتكون وتتشكل علي طول مسيرة طويلة ومنظمة تضم الأنشطة التعاونية الواحد بعد الآخر. تكون دائما البداية بتعاونيات المنتجين وتليها تعاونيات التصنيع ثم التسويق وبعدها التصدير هكذا. وباتت منطقة أزمير تضم الآن79 تعاونية زراعية وغير زراعية.أين تقف الحكومة من هذه التعاونيات خاصة وأن منطقة أزمير باتت تصدر سنويا منتجات تصل قيمتها إلي11 مليار دولار. إذا فهي قوة اقتصادية لا تنظم العملية الانتاجية بخطواتها المتتالية فحسب ولكنها توفر فرص عمل وتطور من المجتمع المحلي, مثل تعاونية تنمية المجتمع المحلي في قرية بادميلر في منطقة أزمير. هنا, يأتي دور الدولة بخبراتها المستمدة من مسيرة هذه التعاونيات منذ عام1863 الذي يمكن وصفه بأنه الدور الداعم والحامي لأنشطة التعاونيات. تدعمها مثلا في حالة توفير وتسهيل مستلزمات الانتاج والحماية من الاحتكار ومراجعة القوانين والتشريعات الخاصة بالنشاط التعاوني من أجل الخروج بقانون يواكب التطور في العمل التعاوني ومساندتها في استيعاب التقنية الجديدة ونظم المعلومات. فالواقع المحلي في عام1863 عندما تأسست أولي الجمعيات اختلف كثيرا عن الواقع الحالي الذي تشكل فيه التعاونيات حركة جماهيرية اقتصادية لها بعدها الاجتماعي. وبناء علي ذلك اختلف دور الدولة وخاصة فيما يتعلق بالتدخل المباشر في العمل اليومي للتعاونيات وتحديدا في العلاقةمع هيكلها الديمقراطي والمحاسبة الداخلية وكيفية إدارتها للموارد البشرية والمالية والمادية. ترعي الدولة التعاونيات دون التدخل المباشر فيها. ولا شك أن قيام حركة تعاونية بتلك المكونات تسهم في بناء ما بتنا نسميه الآن بالاقتصاد الاجتماعي التكافلي الذي يحقق جانبا من العدالة الاجتماعية. فقيام التعاونيات في المناطق الريفية ومحاولة قيام زراعة تعاونية تملك فرصا مستقبلية للنجاح لا يسهم فحسب في زيادة الانتاج الزراعي وإنما في تطوير القوي البشرية والمجتمع المحلي ذاته. فيصبح السكان المحليون صناع حياتهم وتطورها. وكما نفهم من تطور التجربة التعاونية التركية, لم يكن حزب العدالة والتنمية هو منشئها أو مؤسسها ولكنه بلا شك قد أسهم طوال فترة وجوده في الحكم في استمراريتها وعدم الوقوف أمام تطورها تبعا لرؤية القائمين عليها.وهي بلا شك تجربة ديمقراطية كما نراها في البلدان الأوروبية المتقدمة أو في البلدان الاسكنينافية. فقد نجد في بلدان كثيرة, مثل بلدنا, أشكالا من التنظيمات القاعدية تسمي تعاونية ولكنها لا تمت لفكرة التعاون بأي صلة لأنها تفتقد أسس تشكيلها وإدارتها الديمقراطية. ولكن كانت المفاجأة التي صدمتني عندما قام الشباب في ميدان تقسيم وبعد استخدام الشرطة للعنف غير المبرر ثم الهجوم الشرس من رئيس الوزراء علي المتظاهرين وكذلك بعد أن وضحت سياسة العصا الغليظة المستخدمة ضد الصحفيين والاعلاميين وظهور أعداد من سجناء الرأي منهم. كل هذه الأحداث التي طفت علي السطح التركي تجعلني أخاف علي العمق الحقيقي للتجربة التركية. هل هي تجربة ديمقراطية حقيقية أم ماذا؟ لمزيد من مقالات أمينة شفيق