بين الحق سبحانه أن وجود الناس في هذه الأرض لغاية وهي إعمارها, قال تعالي: هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها. وقال جل شأنه: هو الذي جعلكم خلائف في الأرض, وخليفة الله في أرضه إنما ينتمي إلي هذه الأرض التي استخلفه الله فيها, فهو يتخذ من الوسائل ما يتحقق به إعمارها, ولذا فإن الانتماء إلي الأرض أو إلي جماعة أو أسرة أو نحو ذلك, قيمة وخلق إسلامي, وقد ضرب رسول الله صلي الله عليه وسلم المثل للناس بانتمائه إلي مكة وحبه لها, إذ بعد أن خرج منها مهاجرا إلي المدينة, توجه إلي مكة وقال: أما والله لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي وأكرمه علي الله, ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت, بهذه الكلمات التي تفيض حبا وانتماء إلي بلد الله الحرام يودع رسول الله صلي الله عليه وسلم بلده التي نشأ في ربوعها وبعث فيها, ومارس دعوته إلي الله سبحانه بين أهلها, ويؤكد المولي حب نبيه وشدة انتمائه إلي مكة, فيسجل ذلك في آيات تحويل القبلة من بيت المقدس إلي الكعبة, فيقول الحق سبحانه: قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره, وما كان لنبيه أن يرضي بهذه القبلة إلا لأنها في البلد الذي شهد ممشاه وترعرع عوده, وكان له به مواقف عظيمة لا تنمحي, فلما هاجر صلي الله عليه وسلم إلي المدينة صار منتميا إلي أهلها خاصة الأنصار, فقد قال: لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا, لأخذت شعب الأنصار, وقد كان بعض الصحابة ينتسب إلي بلده, فقيل: سلمان الفارسي, وصهيب الرومي, وبلال الحبشي, ولا ينكر انتسابهم إلي ذلك, كما كان علماء السلف ينتسبون إلي بلادهم, فيقال: فلان المصري, وفلان البغدادي, أو البصري, أو الشامي, أو الخراساني, بل إن في داخل البلد الواحد من ينتسب إلي قرية أو مدينة, فعرف في مصر: الإمام البهوتي شيخ الحنابلة منسوبا إلي بهوت بالغربية, كما عرف الإمام السيوطي شيخ الشافعية بمصر, منسوبا إلي أسيوط بصعيد مصر, كما عرف الشيخ علي العدوي فقيه المالكية, منسوبا إلي بني عدي بصعيد مصر, والشيخ علي المنوفي من فقهاء المالكية, منسوبا إلي بلده المنوفية, ونحو ذلك, باعتبار هؤلاء ينتسبون إلي هذه البلاد التي شهدت نشأتهم وطلبهم العلم, ولذا كان هؤلاء يعتزون بما انتسبوا إليه, وإن انتساب الإنسان إلي قبيلته أو بلده أو موطنه, ليدعوه إلي رعايته وحمايته والذود عنه, والارتفاع بمستواه, بحسبان أن ذلك كله من مقتضيات انتسابه إليه, وأن رعايته والاهتمام بأهله جزء لا يتجزأ من خلقه وسلوكه, وهو إذ يحقق ذلك إنما يحقق مقصدا شرعيا دعا إليه كل دين سماوي.