يمتلك دائما رؤية مكتملة الأركان في القضايا الإفريقية وما يمس الأمن القومي المصري منها وأغلبها كذلك ويطالب منذ سنوات طويلة بإعادة تفعيل الدور المصري في إفريقيا حفاظا علي دوام صلة الإخوة والمحبة مع الأشقاء في القارة أولا. وثانيا للحفاظ علي مكتسبات مصر فيها منذ محمد علي حتي جمال عبدالناصر. الدكتور سيد فليفل استاذ التاريخ بجامعة القاهرة والخبير بالعلاقات الإفريقية, مهموم مثل كل مصري وربما بدرجة أكبر بما يحدث الآن بعد اعلان اثيوبيا عن البدء في تحويل مجري نهر النيل والشروع في إنشاء سد النهضة الذي سيحرمنا من مياه النيل وكهرباء السد العالي, قابلناه وتبادلنا الهموم. كيف تفسر الموقف الاثيوبي المفاجئ ولماذا هذا الصلف؟ لابد أن نسأل أنفسنا ماذا تريد منا أثيوبيا؟! هل عندما شرعت في بناء السد تريد الإضرار بمصر.. نعم هناك مؤشرات تؤيد ذلك وإن كان هناك أيضا مؤشرات أخري تذهب إلي أنهم يضغطون لفتح باب للتفاوض.. وإن كان التحليل الأول أقوي من حيث الرغبة في الإضرار بمصر لأن إعلان اثيوبيا في البداية كان عن رغبتها في إقامة السد لتوليد الطاقة الكهربائية من النيل الأزرق بطاقة تخزينية11 مليار متر مكعب فقط, ثم قفزت بالمواصفات إلي سد يحتجز74 مليار مع أن الفارق ما بين التصميم الأول ذي ال11 مليارا والأخير ذي ال74 مليارا ليس كبيرا ولذلك فلا فائدة من التوسع إلا إذا كان الهدف هو إنشاء بحيرة واسعة وهو ما ستؤدي اليه هذه التصميمات المعلن عنها. في حين أن التربة غير صالحة للاحتفاظ بالماء, حيث سيتسرب جزء منه. وذلك يجعلنا نتوجس من الاضرار التي يمكن أن تنجم في حالة انهيار السد وهو ما يحذر منه العلماء لأن ذلك قد حدث من قبل في سدود أخري. وعلي ذلك فالمخاطر معلومة وهنا السؤال إذن لماذا تصر اثيوبيا علي التوسع إلي حد تخزين74 مليارا. كما أن الطرف الاثيوبي لم يقدم لمصر والسودان التصميمات التي توضح أن العمل يتم بقواعد هندسية منضبطة وبإجراءات علمية, كما تم استهلاك وقت طويل في الاتفاق علي اسماء وجنسيات الخبراء الأربعة الأجانب في اللجنة الثلاثية, وتلكأت أثيوبيا طويلا في إمداد اللجنة بالمعلومات التي طلبتها. وهذه مؤشرات إذا وضعناها إلي جوار الحملة الإعلامية التي شنتها أثيوبيا علي مصر منذ قيام ثورة يناير تؤكد أن أثيوبيا تخطط للإضرار العمدي بمصر بمنعها وصول المياه الينا بتخزينها في خزان سد النهضة وتصريفها من أجل توليد الكهرباء بمعدل1547 مترا في الثانية, والنتيجة الانتقاص من حصة مصر ما بين4 إلي5 مليارات تصل إلي12 مليارا بفعل النحر والتسرب في حين أن حصة مصر الحالية التي تبلغ55.5 مليار غير كافية بالنسبة لتعداد السكان الحالي(90 مليونا) وانخفاض حصة الفرد إلي أقل من600 متر بينما حصة المواطن الأثيوبي تزيد علي1300 متر مكعب سنويا. أما أخطر الاضرار فهو أن تتحكم أثيوبيا في مياه النيل وصرفها لنا طوال العام ممسكة بقواعد الابتزاز السياسي مما يغل يد مصر عن التحرك كدولة حرة الإرادة في اقليم حوض النيل والشرق الأوسط وبالتالي تكون تبعيتنا لأثيوبيا وتصبح في يد أمريكا أداة ضغط أخري علينا غير إسرائيل تتمثل في أثيوبيا, ويؤكد الخوف من هذه المخاطر الحملة الإعلامية التي جرت في أثيوبيا بمقولات خاطئة وغير صحيحة ويعلم الأثيوبيون إنها أكاذيب ومنها عدم موافقة أثيوبيا علي أن تبني مصر سياستها المائية علي المعاهدات الاستعمارية التي فرضتها قوي الاستعمار الأوروبي وفي ذلك ضلال مبين لأن أثيوبيا أخر دولة يمكنها أن تتكلم عن الاتفاقيات الاستعمارية لأنها هي الدولة الاستعمارية الوحيدة التي تضاعفت مساحتها بفضل المساعدات الاستعمارية, حيث ضمت إلي اراضيها عام1887 بعد مؤتمر برلين(1884 1885) اقليم الصومال الغربي( أوجادين) وبلاد الأورومو واقليم بني شنجول السوداني. بينما مصر بعد مؤتمر برلين أجبرت علي اخلاء ممتلكاتها في السودان وجنوب السودان واريتريا وشمال أوغندا والصومال, والتي كانت أقاليم مصر الأفريقية منذ عهد أسرة محمد علي. أثيوبيا تعلم جيدا أنها الدولة التي حققت أكبر استفادة من الاتفاقيات حول الحدود ولا يجوز لها أن تأخذ من اتفاقية1902 فيما يخص الحدود و تقبله, وفي نفس الوقت ترفض ما يخص المياه. كما أن دولة أثيوبيا عام1902 كانت دولة مستقلة وغير مستعمرة في حين أن مصر هي التي كانت محتلة من قبل انجلترا, الأمر الآخر أن القانون الدولي لا يسمح بتعديل هذه الاتفاقيات إلا بالتوافق بين جميع الأطراف وهذا لم يحدث. الأمر المهم جدا هنا هو أن أثيوبيا وقعت من خلال رئيس وزرائها السابق ميلس زيناوي مع الرئيس السابق حسني مبارك بروتوكولا للتعاون المشترك في أديس أبابا عام1993 بما فيه التعاون المائي, وفي هذا البروتوكول ما يؤكد موافقتها الضمنية علي حصة مصر من المياه. وما يهمنا هنا في هذا السياق أن اتفاقية عام1929 التي فرضتها انجلترا علي مصر إبان الاحتلال بصفتها تمثل مستعمراتها الإفريقية انتقصت فيها من حصة مصر المائية كما وردت في تقارير لجان النيل لأعوام1920 و1922 و1924 و1925 بما قيمته4 مليارات متر مكعب في السنوات الشحيحة و10 مليارات في سنوات فيضان العالي. ومعني ذلك أن انجلترا أضرت بمصر بينما استفادت اثيوبيا من هذه الاتفاقيات. ولماذا تتعنت أثيوبيا وشنت بعد ثورة يناير حملات إعلامية ضد مصر؟ لأنها تريد الاضرار بنا. وقد شنت حملة إعلامية بشعة ضد مصر تتهم فيها النظام السابق بأنه أهمل أفريقيا واثيوبيا وهو تجاهل لمسئوليتهم عن محاولة اغتيال رئيس مصر علي أرضها. وكان يجب علي أثيوبيا قبل أن تتهم مبارك بعدم ذهابه اليها أن تسأل لماذا؟!.. فهو لم يذهب لأن الأمن فيها غير مضمون بدليل تعرضه لمحاولة اغتيال فيها, وإذا كان قد تقاعس مبارك عن حضور القمة الإفريقية, فإن الدولة المصرية لم تتقاعس عن واجبها تجاه اشقائها الأفارقة وامداد الدول الأفريقية بما فيها أثيوبيا بخبراتها ومساعداتها سواءكانت المادية أو الباحثين والأطباء والعلماء وصيانة الموارد المائية ومقاومة ورد النيل في البحيرات العظمي والتدريب وحفر الآبار عن طريق صندوق التعاون الفني الإفريقي بوزارة الخارجية, ولكن الخطأ الأكبر لأثيوبيا الذي يصل إلي درجة الحملة المنظمة ضدنا هو ما بذلته من جهود لتضليل دول حوض النيل وتقسيمها إلي دول منابع ودولتي مصب, وهذا الأمر منع هذه الدول من استمرار الاستفادة من خبرة مصر مع أن التقسيم الجغرافي الطبيعي في الحوض ليس تقسيمات لدول المنبع ودول المصب وانما هو تقسيم بين دول الحوض الشرعي( النيل الأزرق ونهري السوباط والعطبرة) ودول الحوض الجنوبي رواندا وبروندي وكينيا وتنزانيا والكونغو وجنوب السودان والسودان. وبالتالي لا يصلح ان تتحدث اثيوبيا باسم دول المنابع كلها ومنها دول الحوض الجنوبي. ولماذا هذا العداء التاريخي؟ نفسره بعدة أشياء. اولا مكانة مصر الدولية التي تحوزها في كل العالم, ثانيا خبراتها الفنية العميقة في مجال إدارة الموارد المائية, وظن اثيوبيا أن مصر تأخذ ولا تعطي وهو ما يجعلنا نفكر في نفسية بعض مسئولي أثيوبيا عند نظرهم إلي مشروعات مصر المائية وزعمهم أن مصر تستحوذ علي أغلب حصة مياه النيل. هذا غير حقيقي بالمرة فلديهم أضعاف أضعاف ما لدي مصر من مياه ويمتلكون مقومات الغني لكنهم لا يبذلون جهدا, ولم يطلبوا من مصر الخبرة وذهبوا إلي شريك آخر إسرائيل, وهذا يؤكد انهم لم يقدروا الدولة المصرية واستعانوا بالعدو الطبيعي لها ليتحكم في ماء النيل من الجنوب فضلا عن تحكمه بسلاحه النووي في التوازن الاقليمي في الشرق الأوسط, وسمحوا لإسرائيل بالسيطرة علي عملية توزيع الكهرباء والسيطرة علي الدول الإفريقية, كل ذلك يعبر عن عداء واضح ورغبة عميقة ودفينة في الاضرار بمصر. وبالتالي ماذا سيحدث؟ بالتأكيد نكبات لمصر وضياع لها في إفريقيا وللأسف فإن بعض المسئولين في أفريقيا يتحدثون عن مياه النيل كما لو أن مصر تسرقها, والسؤال الذي يجب أن يوجه لهم جميعا هل أنشأت مصر حضارتها الفرعونية بواسطة الدول الاستعمارية وانجلترا معها. وعندما يكره بعض الأثيوبيين أن يصل الماء إلي مصر فهذا لا ينبئ عن علاقة أشقاء وأيضا اعتراض علي الطبيعة والمشيئة الإلهية, و يجعلهم بذلك مناع للخير معتد أثيم وعليهم أن يسألوا انفسهم هل هذا التصرف فيه ما يعبر عن الاتحاد الأفريقي الذي يتخذون من إثيوبيا مقرا له. سيادتك تتحدث بصيغة الاستعطاف فهل هانت مصر إلي هذا الحد؟ ليس الأمر كذلك ولكن أنت تتحدث مع أشقاء وإذا قلت أشقاء فعليه ألا يسبب ضررا لشقيقه وأقول له إذا كنت تعجز عن إجراء تنمية بنفسك في بلدك فلا تجلب لي الاعداء. اسألني المساعدة أساعدك, دع مياهي تمر وإذا كنت معتديا أثيما فلي فيك رأي آخر. وما هو؟ هو احتمالات مواجهة الخطر الذي وضعته أمامنا أثيوبيا. وهل كانت إثيوبيا لتفعل ذلك لولا تهاون الدولة؟ بالفعل صحيح. ولقد أضعنا وقتا طويلا بعد الثورة قبل الوصول إلي توافق وطني وهو أهم محدد للنجاح في السياسة الخارجية وخصوصا في التفاوض مع دولة عصبية وعنيدة مثل اثيوبيا. يفكر قادتها بحساسيات تاريخية وادعاءات سياسية لا اساس لها, فالمعاهدات التي يتحدثون عنها لم تزد من حصة مصر من مياه النيل, ولكنها انتقصت منها. كيف تري اللقاء الذي تم في رئاسة الجمهورية وأذيع علي الهواء؟ نحن سعدنا بالقاء الذي عقده الرئيس مع بعض السياسيين لاطلاعهم علي تطورات الأمر وتقرير الخبراء ولكن في نفس الوقت لم يتم الأمر كما كنا نتمني, حيث انقلب الوضع وعرض غير المتخصصين من السياسيين افكارا خيالية وغير علمية تتضمن تهديدات باستخدام القوة علي نحو لا يليق بعلاقتنا مع اشقائنا في دول حوض النيل, فالمطلوب هو الوصول إلي اتفاق مع الأخوة الإثيوبيين يقوم علي المشاركة التنموية وتبادل المنافع. لهم ما يشاءون من كهرباء ولنا حقنا من الماء. وعلي مصر وإثيوبيا أن تعملا معا علي تحويل الأزمة الراهنة إلي فرصة للتكامل الإقليمي بحيث تقومان مع دولتي السودان بالعمل الجماعي من أجل تنمية معلومة ومحددة في مجالات الطاقة والاعتماد المتبادل والتجارة والبنية الأساسية, وأن يصل التكامل إلي حد أن تقيم مصر ميناء علي البحر الأحمر لذلك, وهذه الفكرة إذا جري تنفيذها لابد أن ترتبط بدور مصر في مجالات التنمية البشرية وبالذات في مياه الشرب والصرف.