أثار تحويل إثيوبيا لمجري نهر النيل الأزرق يوم28 مايو2013 إنزعاج البعض في دول المصب (مصر والسودان), حيث نظر البعض إلي الحدث بوصفه خطوة فعلية جديدة نحو إستكمال إقامة سد النهضة الإثيوبي علي النيل الأزرق دون الرجوع إلي دول المصب والحصول علي موافقة رسمية منها كما تقتضيه بنود المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، ودون انتظار لما ستسفر عنه تقارير اللجنة الفنية المشتركة التي تم تشكيلها للبت في أمر المشروع المائي الإثيوبي.ولكن يبدو أن الأمر أعمق وأكبر من مجرد إقامة سد لتخزين المياه ومشروع للطاقة الكهرومائية. فقد تزامن وقوع الحدث مع العديد من الشواهد التي دلت علي دخول منطقة حوض وادي النيل بوجه عام وشرق إفريقيا علي وجه الخصوص لمرحلة جديدة توضع خلالها خريطة جديدة للقوي الإقليمية ولتوزيع النفوذ والثروات. الدور الإثيوبي الإقليمي الجديد بدا من الواضح أن الولاياتالمتحدة علي وجه الخصوص والغرب بوجه عام قد خطط منذ سنوات للدفع بإثيوبيا للقيام بدور إمبراطوري في منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا بأسره في المرحلة القادمة. وكان التعاون فيما وصفه الأمريكيون ب مكافحة الإرهاب هو بوابة عبور إثيوبيا إلي دورها الجديد في المنطقة. فبالرجوع إلي التاريخ سنجد أن مشروع سد النهضة ما هو إلا فكرة أمريكية في الأساس تمت دراستها نظريا وعمليا في الخمسينيات من القرن العشرين. فقد قام الخبراء الأمريكيون بإجراء مسوح جغرافية وجيولوجية علي ضفاف النيل الأزرق خلال الفترة بين عامي1956و1964 وتوصلوا إلي تحديد الموقع الملائم لإقامة سد النهضة.وسرعان ما دخلت اثيوبيا في صراعات داخلية واقليمية فتوقف البحث في المشروع إلي أن تمت إعادته عنوة إلي الحياة في عام.2009 وقبل نهاية2010 كانت التصميمات الخاصة بالسد قد أصبحت في يد الإثيوبيين الذين فضلوا التكتم علي الأمر مستخدمين اسم شفري للمشروع هو المشروع إكس وذلك حتي عام2011 الذي شهد وضع حجر الأساس بشكل رسمي معلن. وبغض النظر عن المواصفات الفنية للسد فإن التحرك الإثيوبي نحو العمل في اتجاه مناقض للاتفاقيات التاريخية الخاصة بنهر النيل لم يولد من فراغ بل جاء في إطار مخطط إستراتيجي لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية في المنطقة بتشجيع من أطراف خارجية تتمثل في منظمات ودول ومؤسسات لها مصالح وأهداف خاصة. فما تم جمعه من تمويل علني للمشروع حتي اليوم يقل كثيرا عن المبلغ المخطط الذي يعد إستكماله لغزا غامضا. ولكن أشارت بعض التقارير إلي إحتمال تمويل بنوك صينية للمشروع ب1.8 مليار دولار بالإضافة إلي مشاركة شركة ساليني كوستروتوري الإيطالية وبعض الشركات التابعة لها في أعمال الإنشاءات ومد كوابل الضغط العالي والمنخفض بينما تتولي شركة ألستوم الفرنسية تزويد المشروع ب8 توربينات في المرحلة الأولي وذلك بقيمة250 مليون يورو. وعلي الرغم صعوبة تمويل الموازنة الإثيوبية المعلنة لباقي المبلغ المخطط لمشروع سد النهضة فإن لقاء وزير الخارجية الأمريكي جون كيري برئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ووزير الخارجية تيدروس آدانوم يوم25 مايو أوضح الكثير. وتم التطرق إلي الدور الإثيوبي وما يمثله من أهمية لدي الأمريكيين. فقد حصلت اثيوبيا علي صفة الشريك القوي جدا لأمريكا للحفاظ علي السلام والاستقرار في المنطقة.كما حصلت علي صفة الشريك المهم جدا فيما يتعلق بالشأن السوداني الشمالي والجنوبي مع الإشارة إلي العمل معا فيما يتعلق بقضايا أبيي والنيل الأزرق وجنوب كردفان والعلاقات بين شمال وجنوب السودان, وأشاد كيري بالمبادرة الإثيوبية بشأن الصومال مؤكدا أن الأمريكيين مدينون لإثيوبيا بالدعم والمساندة من أجل القضاء علي الإرهاب وتحقيق السلام في المنطقة. وقد توسعت إثيوبيا منذ عام2009 في مجال المزارع التجارية(7 ملايين آكر يوازي28 ألف كيلومتر مربع تقريبا) لجذب الاستثمارات الأجنبية. وعلي مدي السنوات القليلة الماضية تم إقناع الحكومة الإثيوبية بحتمية زيادة قدراتها الكهربائية باستغلال الأنهار المنتشرة في اراضيها المرتفعة. وبالتالي وضعت اثيوبيا مخططات لإقامة العديد من السدود خدمة لمشروعات الطاقة الكهرومائية وللزراعة التي تجتذب المستثمرين ورؤوس الأموال الأجنبية من الخارج. وخلال السنوات الأخيرة تم إقناع إثيوبيا بأنها علي أعتاب ثورة طاقةومن ثم تدافعت الشركات الأجنبية ومؤسسات التمويل الدولية وبعض الدول لتمويل مشروعات الطاقة الكهرومائية التي تتطلب إقامة السدود علي الأنهار في إثيوبيا وبعض مزارع توليد الطاقة من الرياح, أملا في تحويل إثيوبيا إلي قوة كهربائية عظمي في شرق إفريقيا, ومن ثم تشرع في تصدير الكهرباء لدول الجوار بما فيها السودان ومصر. وهكذا بدأت إثيوبيا بإيعاذ من الأطراف الخارجية صاحبة المصالح في شق طريقها باندفاع واضح نحو امتلاك أدوات الطاقة والمياه والأدوات العسكرية بالقدر الذي يؤهلها لأن تكون قوة إقليمية كبري خلال الأعوام القليلة القادمة. .. والبحيرات قادمة أما فيما يتعلق بدول منطقة البحيرات العظمي في جنوب حوض نهر النيل فقد أعلنت مجموعة البنك الدولي يوم22 مايو2013عن تقديم مليار دولار في صورة تمويل جديد مقترح لمساعدة بلدان المنطقة علي تحسين الخدمات الصحية والتعليمية, وزيادة حجم التجارة عبر الحدود, وتمويل مشاريع الطاقة الكهرومائية, وذلك دعما لاتفاق السلام الذي وقعه11 بلدا في فبراير الماضي. جاء هذا الإعلان خلال جولة تاريخية بالمنطقة قام بها رئيس مجموعة البنك الدولي د.جيم يونج كيم والأمين العام للأمم المتحدة بان كي- مون وشملت الكونغو الديمقراطية ورواندا وأوغندا.ويشمل التمويل الإضافي المقترح340 مليون دولار لدعم مشروع شلالات روسومو للطاقة الكهرومائية بقدرة80 ميجاوات لبوروندي ورواندا وتنزانيا,و150مليون دولار لإعادة تأهيل مشروعي الطاقة الكهرومائية روزيزي1 و2 وتمويل مشروع روزيزي3, لتوفير الكهرباء لرواندا وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وهكذا بدأت تتضح معالم عملية إعادة هيكلة ورسم خريطة القوي الاقتصادية والسياسية بل والعسكرية بحوض نهر النيل باستخدام الإستثمارات الخارجية ومشروعات توليد الطاقة وبرامج الدعم العسكري.وبالتالي لم تكن حالة التذمر من الاتفاقيات التاريخية المتعلقة بنهر النيل سوي بادرة للتغيير القادم والذي بدأنا نشهده ونلمسه فعليا بعد العام الثاني من إنطلاق العمل في مشروع سد النهضة الإثيوبي.