نزوح آلاف الإيرانيين من طهران بعد تصريحات ترامب (صور)    البرنامج النووي الإيراني يٌشعل خلافًا بين ترامب ومديرة الاستخبارات    أسعار الذهب اليوم الأربعاء 18 يونيو 2025 بعد الهبوط الكبير وعيار 21 الآن بالمصنعية    كم فوائد 100 ألف جنيه في البنك شهريًا 2025 ؟ قائمة أعلى شهادات الادخار الآن    روسيا: هجمات إسرائيل على إيران تدفع العالم لكارثة نووية    تشكيل الوداد المغربي المتوقع أمام مانشستر سيتي في كأس العالم للأندية 2025    قبل اللغة العربية.. جدول امتحانات الثانوية العامة 2025 علمي وأدبي «pdf» كامل    تليفزيون اليوم السابع يرصد عمليات إنقاذ ضحايا عقار السيدة زينب المنهار (فيديو)    تمكين الشباب في عصر التكنولوجيا والثقافة الرقمية على طاولة الأعلى للثقافة، اليوم    حين تتحول إلى فن داخلى .. الصوفية وفن القيادة المؤسسية فى «رحلة مع النفس»    طريقة عمل الحجازية، أسهل تحلية إسكندرانية وبأقل التكاليف    الإيجار القديم.. خالد أبو بكر: طرد المستأجرين بعد 7 سنوات ظلم كبير    هل يعتزم ترامب تمديد الموعد النهائي لبيع "تيك توك" للمرة الثالثة؟    تياجو سيلفا: فلومينينسي استحق أكثر من التعادل ضد دورتموند.. وفخور بما قدمناه    وكيل لاعبين يفجر مفاجآت حول أسباب فشل انتقال زيزو لنادي نيوم السعودي    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأربعاء 18 يونيو 2025    "أدوبي" تطلق تطبيقًا للهواتف لأدوات إنشاء الصور بالذكاء الاصطناعي    أخيرا على "آيفون": "أبل" تحقق حلم المستخدمين بميزة طال انتظارها    مؤتمر إنزاجي: حاولنا التأقلم مع الطقس قبل مواجهة ريال مدريد.. ولاعبو الهلال فاقوا توقعاتي    «رغم إني مبحبش شوبير الكبير».. عصام الحضري: مصطفى عنده شخصية وقريب لقلبي    الرئيس الإماراتي يُعرب لنظيره الإيراني عن تضامن بلاده مع طهران    إمام عاشور يوجه رسالة لجمهور الأهلي بالفيديو    نائب محافظ شمال سيناء يتفقد قرية الطويل بمركز العريش    7 مصابين جراء حريق هائل بشقة سكنية في الإسماعيلية    الجيش الإسرائيلى يحذر سكان مربع 18 وسط العاصمة الإيرانية طهران    «طلع يصلي ويذاكر البيت وقع عليه».. أب ينهار باكيًا بعد فقدان نجله طالب الثانوية تحت أنقاض عقار السيدة زينب    التفاصيل الكاملة لاختبارات القدرات لطلاب الثانوية، الأعلى للجامعات يستحدث إجراءات جديدة، 6 كليات تشترط اجتياز الاختبارات، خطوات التسجيل وموعد التقديم    المستشار محمود فوزي نافيا شائعات وسط البلد: قانون الإيجار القديم يعالج مشكلة مزمنة ولن يُترك أحد بلا مأوى    مينا مسعود: السقا نمبر وان في الأكشن بالنسبة لي مش توم كروز (فيديو)    أطفال الغربية تتوافد لقصر ثقافة الطفل بطنطا للمشاركة في الأنشطة الصيفية    نجوم الزمالك يشعلون حفل زفاف ناصر منسي بالشرقية ورقص الأسطورة يخطف الأنظار (فيديو)    إعلام إسرائيلى: صفارات الإنذار تدوى فى منطقة البحر الميت    إسرائيل تهاجم مصافي النفط في العاصمة الإيرانية طهران    معدن أساسي للوظائف الحيوية.. 7 أطعمة غنية بالماغنسيوم    الكشف المبكر ضروري لتفادي التليف.. ما علامات الكبد الدهني؟    التضامن الاجتماعي: إجراء 2491 عملية قلب مجانية للأولى بالرعاية بالغربية    ضربة موجعة للهلال قبل مواجهة ريال مدريد في كأس العالم للأندية    جاكلين عازر تهنئ الأنبا إيلاريون بمناسبة تجليسه أسقفا لإيبارشية البحيرة    توقف عن تضييع الوقت.. برج الجدي اليوم 18 يونيو    الشيخ أحمد البهى يحذر من شر التريند: قسّم الناس بسبب حب الظهور (فيديو)    ألونسو: مواجهة الهلال صعبة.. وريال مدريد مرشح للتتويج باللقب    سعر الفراخ البلدي والبيضاء وكرتونة البيض بالأسواق اليوم الأربعاء 18 يونيو 2025    نجم سموحة: الأهلي شرف مصر في كأس العالم للأندية وكان قادرًا على الفوز أمام إنتر ميامي    مسؤول إسرائيلي: ننتظر قرار أمريكا بشأن مساعدتنا فى ضرب إيران    الجبنة والبطيخ.. استشاري يكشف أسوأ العادات الغذائية للمصريين في الصيف    رسميًا.. فتح باب التقديم الإلكتروني للصف الأول الابتدائي الأزهري (رابط التقديم وQR Code)    الأبيدى: الإمامان الشافعى والجوزى بكيا من ذنوبهما.. فماذا نقول نحن؟    الغرفة التجارية تعرض فرص الاستثمار ببورسعيد على الاتحاد الأوروبى و11 دولة    «الربيع يُخالف جميع التوقعات» .. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم الأربعاء    النفط يقفز 4% عند إغلاق تعاملات الثلاثاء بدعم من مخاوف ضربة أمريكية لإيران    العدل يترأس لجنة لاختبار المتقدمين للالتحاق بدورات تدريبية بمركز سقارة    علي الحجار يؤجل طرح ألبومه الجديد.. اعرف السبب    اللواء نصر سالم: الحرب الحديثة تغيرت أدواتها لكن يبقى العقل هو السيد    فضل صيام رأس السنة الهجرية 2025.. الإفتاء توضح الحكم والدعاء المستحب لبداية العام الجديد    جامعة دمياط تتقدم في تصنيف US News العالمي للعام الثاني على التوالي    الشيخ خالد الجندي يروي قصة بليغة عن مصير من ينسى الدين: "الموت لا ينتظر أحدًا"    محافظ الأقصر يوجه بصيانة صالة الألعاب المغطاة بإسنا (صور)    أمين الفتوى يكشف عن شروط صحة وقبول الصلاة: بدونها تكون باطلة (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التي هي أحسن
نشر في الأهرام اليومي يوم 01 - 06 - 2013

سمعها منه بصوته ولسانه وفي حضرته فهلل واستبشر واستأذن قائلها نبي الله صلي الله عليه وسلم في أن ينقل بشارتها إلي الناس أجمعين.. فأذن له خاتم المرسلين..
بشارة حروفها النور وكلماتها النور وهديها النور وطريقها النور ومآلها النور فخاتمتها السلام في جنة ترديدها سلام سلام سلام.. بشارة المصطفي تقول: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة.. سمعها أبو هريرة فشق طريق الإبلاغ الحماسي السريع ليعترضه عمر رضي الله عنه فيقرأ وجهه ويعرف وجهته, فيأمره ناهرا ناهيا قاطعا مانعا قاصرا موجزا: ارجع.. فيعجب أبو هريرة وهو الذي لم يقترف ذنبا في أن يبلغ الناس رسالة نبيهم بعد أن أجاز رسول الله هذا الإبلاغ فيقطع عمر عليه سبيله مبررا بعدها المنع بقوله: ارجع.. لا تبلغ الناس حتي لا يتكلوا.. ويلحق الناهي بالمنتهي الشاكي لدي رسول الله الذي سأل عمر عن السبب فيما رآه وفعله, فقال ابن الخطاب: والله لقد خفت يا رسول الله أن يتكل الناس.. أي يتكلون علي ظاهر اللفظ ولا يعملون.. أي أن يرددوا القول الكريم ليس إلا وذلك من بعد ما يخطئون, وبعدها يتمادون في غيهم متكلين علي القول الموحد بالله.. فوافق الرسول عمر علي رأيه وأشار من فوره علي أبي هريرة بعدم التبليغ قائلا: فخلهم يعملون.. وهنا لم يكن الإذن من الرسول لأبي هريرة بوحي منزل, وكان عمر يعلم ذلك, ولو كان بوحي لما رجع الرسول عن رأيه ونزل علي رأي عمر, فمن الأحاديث ما كان عن وحي وتعليم من الله لرسوله, ومن الأحاديث ما لم يكن عن وحي وإنما عن تفكير واجتهاد من الرسول, وكثير من الأحاديث التي مرت بالرسول, ومن تصرفات الصحابة معه ومراجعتهم له, وسؤالهم إياه: أهذا عن وحي أم عن رأي؟ ورده عليهم أحيانا بأنه عن رأي, ومن هنا وجدوا لذلك فرصة للإدلاء بآرائهم معدلين رأيه أحيانا, ومخالفين أحيانا كما حصل مثلا في صلح غطفان, وفي غزوة الأحزاب, وفي الخروج لغزوة أحد.. تلك الوقائع وغيرها تدل دلالة قاطعة علي أن جزءا مما كان يقوله المصطفي كان عن رأي واجتهاد منه, ولو كانت وحيا لما ساغ للصحابة أن يبدوا آراءهم, وقد روي الإمام أحمد بن حنبل أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم, وترون أنه منكم بعيد, فأنا أبعدكم عنه, وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام: إذا أمرتكم بأمر من أمور دنياكم فأنتم أعلم به وأنتم أعلم بشئون دنياكم وفي رواية وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب, وقد قال هذا لما ظهر له ولأصحابه أن عملهم بمشورته في عدم تأبير النخل بوضع طلع الذكورة فيه كان غير سليم مما عاد بنتائج ضارة علي النخيل حيث لم تأت بثمارها ذلك العام, ولو كان الوحي من خلف هذا الرأي لقام بتنبيهه فيه, ولنزل الوحي يصحح له مشورته علي أصحابه في الحال, وقد استمرت التجربة عاما كاملا حتي أثبتت عدم جدواها.. وهنا فلقد وضع الرسول بذلك أمام المسلمين قاعدة عامة فيما يأخذونه عنه ويعتبر قضية مسلما بها لا يناقشون فيها لأنه من صميم اختصاصه الإلهي, وفيما هو من اختصاصهم أن يفكروا فيه ويقبلوا أو يناقشوا ويردوا, بل وربما يعملوا بغيره.. ومن هنا وبناء علي القاعدة التي وضعها الرسول نفسه وجربها الصحابة معه في حياته أن نناقش كل قول صدر عنه في شئون الدنيا: في طب أو زراعة أو خطة حرب أو ما شابه ذلك من أمور الدنيا, فنقبل منها ما يتفق والعقل والنقل والعلم التجريبي, ونتوقف في كل ما لا يتفق مع ذلك, ولا غضاضة علي رسول الله لأنه ليس مرسلا لتعليم الناس أمور الزراعة أو الطب أو ما شابه, فتلك من أمور الحياة, وهو إذا ما تحدث في أمر من ذلك فهو كالناس بشر مثلكم قد يصيب ويخطئ, وقد يكون هو أولي بالعمل به من رأيه, كما حدث في غزوة بدر وموقع جيشه من أخذه بمشورة الخباب ابن المنذر.
وفي الرجوع إلي كتاب السنة والتشريع للعالم الراحل الدكتور الشيخ عبدالمنعم النمر نجده يقول: لقد عاش الرسول قبل بعثته أربعين عاما كأي رجل من العرب يتكلم ويستفيد مما حوله, ويكتسب علما وخبرة من الحياة كرجل اجتاز مراحل حياته طفلا وصبيا وشابا ورجلا ككل واحد من أقرانه من أبناء مكة والجزيرة يجتاز هذه المراحل, ومن الضروري أنه استفاد مما يتناقله الناس حوله عن الطب وتجارب كل واحد فيه.. فلا يعقل أن يعيش النبي أربعين سنة في مكة وهو لا يعرف شيئا عن تجارب العرب ووصفاتهم للعلاج المنتزعة من ظروف البيئة.. ولاشك أنه كان يصف للمرضي ما عرفه وسمعه من شئون التطبيب.. فإذا لم تكن عنده معرفة سابقة بعلاج مرض من الأمراض, حول المريض إلي من يعرف عنده معلومات ومهارة أكثر, كما أشار علي صاحبه سعد بن أبي وقاص بالذهاب إلي الحارث بن كلدة من ثقيف وكان مشهورا بأنه طبيب العرب وهو في ذلك يطبق الآية الكريمة فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون, ولو كان وصفه الدواء بناء علي وحي من الله لأمره الله العليم الخبير بعلاج أعلي مستوي مما كان يعرفه العرب لتكون للرسول ميزة محسوسة عن غيره في علاج الناس.. ويروي عن عائشة رضي الله عنها قولها: إن رسول الله كان رجلا مسقاما, وكان أطباء العرب يأتون فأتعلم منهم, هذا وعنها رضي الله عنها عن مرضه بالخاصرة التهاب الكلي وربما حصوة الكلية التي تؤدي إلي فشل كلوي قولها وكثيرا ما كانت الخاصرة تصيب رسول الله وقد تأخذ منه شهرا في السنة حتي يستطيع أن يخرج إلي الناس. ولقد رأيته يكرب حتي آخذ بيده أقرأ فيها القرآن ثم أكبها علي وجهه ألتمس بذلك بركة القرآن وبركة يده فأقول: يا رسول الله إنك مجاب الدعوة, فادع الله يفرج عنك ما أنت فيه. فيقول: يا عائشة أنا أشد الناس بلاء... لقد أراد الله لرسوله ما قاله له في قرآنه الكريم: قل إنما أنا بشر مثلكم.. أي لا يريد له أن يكون متميز ا عنهم بوحي في شئون حياتهم الدنيوية, إنما الوحي فقط في صلته بالخالق ورسالته السماوية المكلف بتبليغها, وما يتصل بهذا التكليف من أمور الدين والدنيا.
هذا وقد يحدث الخطأ أيضا في فهم كلمات خاتم الأنبياء وذلك كما روي أبو داود عن عوف بن مالك في قوله: كنا عند رسول الله وكنا حديثي العهد ببيعته فسأله أحدنا: يا رسول الله إنا قد بايعناك, فعلي ماذا نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا, وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا.. ولا تسألوا الناس شيئا.. وكان أبوحمزة الخرساني من كبار العباد, فخرج حاجا من الشام يريد مكة, فبينما يمشي في طريقه إذ سقط في بئر علي حافة الطريق, وما أن بلغ في سقوطه قاع البئر حتي وقع في حيرة مع نفسه: أأستغيث لعل أحدا يسمعني أو إن الذي عاهدته يراني ويسمعني ووالله لا تكلمت بحرف استغاثة للبشر ومر نفر من الناس فسدوا البئر بالخشب والتراب, فلما رأي ذلك السد لفتحة البئر قال أبوحمزة لنفسه: هذه مهلكة.. ثم أراد أن يستغيث, ولكنه رجع إلي نفسه قائلا: أليس قد عاهدت.. وسكت وتوكل!!.. وفي هذا قال أبوالفرج الجوزي: سكوت هذا الرجل في هذا المقام لا يحل.. ولو فهم معني التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته.. كما لم يخرج رسول الله من التوكل بإخفائه الخروج من مكة واستئجاره دليلا, وتستره في الغار وقوله لسراقة: اخف عنا.. فالتوكل الممدوح لا يناله الإنسان بفعل محظور, وسكوت هذا الواقع في البئر أبوحمزة محظور عليه.. وبيان ذلك أن الله تعالي قد خلق للآدمي آلة يدفع عنه بها الضرر وهي نفسها الآلة التي يجتلب بها النفع, وهي العقل.. فإذا عطلها مدعيا التوكل كان ذلك جهلا بالتوكل, ولو أن شخصا جاع فلم يسأل حتي مات من الجوع فبئس المصير قاله سفيان الثوري وغيره, لأنه قد دل علي طريق السلامة, فإذا تقاعد عنها ألقي بنفسه في التهلكة.. وهكذا يفهم البعض الأقوال التي جاء بها الإسلام الفهم الخاطئ, هذا بينما يحملون في رءوسهم العقول التي تزن الصح والخطأ.
تلك الآلة التي خلقها الله للآدمي دون مخلوقاته جمعاء حتي الملائكة هي العقل, ولقد جاء في القرآن الكريم كيف أمر الله تعالي الملائكة بالسجود لآدم أبي البشر, والسبب أنه سبحانه قد ميز البشر ممثلا في آدم بتعليمه الأسماء ولم يعلم الملائكة.. فالعلم بأسماء الأشياء وخصائصها فيما خلق الله هو ميزة الإنسان علي كل المخلوقات بما فيها الملائكة.. والتفكر في الخلق يؤدي إلي طلب العلم, ويقول المصطفي: وهل ينفع القرآن إلا بالعلم بل وجاء في سورة العلق في قرآنه الكريم: اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق, اقرأ وربك الأكرم, الذي علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم. فالعلم في كتاب الله هو من كلام الله المبين, ويقول تعالي: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات, والعلم في خلق السماوات وما فيها من نجوم ذكرها الله في سورة الواقعة فلا أقسم بمواقع النجوم, وإنه لقسم لو تعلمون عظيم وأدي ذلك إلي علم الفلك, وخلق الأرض أدي إلي علم طبقات الأرض الجيولوجيا, وخلق ما علي الأرض من إنسان وحيوان أدي إلي علم الأحياء, وهكذا العلم في كل نواحيه, ولقد أشاد الله سبحانه بالعلم والعلماء والعقل البشري في الحديث القدسي ما خلقت خلقا أعجب إلي منك.. وعن عائشة قولها: قلت يا رسول الله بم يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال: بالعقل, قالت: وفي الآخرة؟ قال: بالعقل, قالت: أليس إنما يجزون بأعمالهم؟ قال: يا عائشة وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم عز وجل من العقل, فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم, وبقدر ما عملوا يجزون.. والإسلام الصحيح يقوم علي أساسين هما الدين والدنيا والدين هو العقيدة والدنيا هي الفكر.. والفكر حرية الحركة للآلة المفكرة عند الإنسان وهي العقل, ورسول الإسلام عليه الصلاة والسلام كان نموذجا لحرية الفكر, سواء فيما جاءت به الجاهلية التي يحاربها, أو الخصوم الذين حاربوه, أو أي إنسان أو جهة يأتي منها النفع والمصلحة.. وقد جاء أيضا في كتاب السنة والتشريع هذه العبارة عن أصحاب النبي: وكانوا يراجعونه أحيانا ويبدون رأيا آخر, وكان عليه الصلاة والسلام يتقبل بصدر رحب هذا الرأي الآخر, ويأخذ به, لأن هدفه المصلحة لا التسلط... ولست عليهم بمسيطر..
ولقد كان عمر بن الخطاب جريئا حين يري الرأي ويعتقد أنه الحق, فلا يتردد في أن يعترض علي النبي نفسه, كما فعل عام الحديبية حين أنكر صلح النبي مع قريش قائلا للنبي بصراحة بالغة: لم نعط الدنية في ديننا؟ وربما دفعته هذه الصراحة إلي أن يدخل في أشياء لم يدخل فيها غيره من أصحاب رسول الله, فهو يتمني أن تحرم الخمر وقد كان فيما زعم الرواة صاحب خمر في الجاهلية, ولكنه بعد إسلامه عرف ضرر الخمر فتمني أن تحرم, ومازال يجهر بهذا الذي كان يتمناه حتي إذا نهي الله المسلمين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكاري حتي يعلموا ما يقولون رضي عمر شيئا, ولكن رضاه لم يبلغ الإقناع, فظل يتمني جهرا أن تحرم الخمر تحريما قاطعا, فلما أنزل الله قوله الكريم في سورة المائدة: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون.. طابت نفس عمر, وكان يتمني فيما بينه وبين نفسه أن تحتجب نساء النبي, بل كلم النبي نفسه في ذلك, واشتد في هذا الأمر حتي قالوا إنه تعرض مرة لسودة أم المؤمنين في طريقها وقال لها: لقد عرفناك يا سودة. فأحرجها وأحفظها, ولم يسترح حتي أنزل الله في سورة الأحزاب: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي.. هنا رضي عمر حين وضع الله نساء النبي حيث ينبغي أن يوضعن في منزلة الإجلال.. إلا أنه عندما راجعته امرأته في بعض أمره فأغضبه ذلك وقام بزجرها فقالت له: ويحك إنك لتأبي علي أن أراجعك, وإن ابنتك وغيرها من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ليراجعن رسول الله حتي يغضبنه, فأسرع عمر إلي ابنته حفصة أم المؤمنين ليسألها: أفي الحق أنكن تراجعن نبي الله؟ قالت: أجل والله إنا لنراجعه.. فقام عمر بوعظها ما استطاع, ثم استأذن علي أم سلمة أم المؤمنين وكانت بينه وبينها قرابة من ناحية أمه, فسألها في ذلك, فقالت: لله أنت يا ابن الخطاب.. دخلت في كل شيء تريد أن تدخل بين النبي وأزواجه.. فأسكتته, وانصرف عمر خجلا.. ومن قبل ذلك كله وقف عمر موقفا طابقه القرآن عليه, وذلك في أعقاب غزوة بدر حين شاوره النبي في أمر الأسري, فأشار عمر بقتلهم, وأشار أبوبكر بالفداء, وأنزل الله في سورة الأنفال لومه للنبي والمسلمين في قبول الفداء, وليس غريبا أن يتحدث الرواة بأن رسول الله قال: إن الحق علي لسان عمر وفي قلبه, وليس غريبا أن يلقب عمر الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل, ولم يكن عمر أيام أبي بكر أقل صراحة منه أيام نبي الله فقد راجع أبا بكر في أمر خالد بن الوليد حين قتل مالك بن نويرة وتزوج امرأته, وظل عمر يلح في عزله لأن في سيفه رهقا, وبعد وفاة أبا بكر وتوليه الأمر قام علي الفور بعزل خالد.
وحول موضوع الأسراء الذي جاء ذكره في القرآن الكريم في سورة الإسراء: سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا, إنه هو السميع البصير.. كان موقف عمر عندما سمع بالخبر, استبعاد الانتقال بالجسد لمخالفته للعقل, فلما أكده له أبوبكر غير موقفه في الحال, وترك العقل إلي النقل, لأن العقل قد يخطئ, ولكن الإيمان هو العقيدة الثابتة, وإيمان أبي بكر هنا, يستند إلي المعجزة وهي التي تخرج عن نطاق القوانين الوضعية والعقلية.. جدال الدين والعلم, وهل كان الإسراء بالجسد أو بالروح.. لقد ظل الخلاف موجودا في هذا الأمر خاصة وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها, أنها قالت عن الرسول صلي الله عليه وسلم: أنه ما فارق صدري ولا نحري تلك الليلة.. آراء تبسط عارضة كل احتمال في معرفة واسعة بهدوء جميل, وكأن الدين والعلم حمامتان تتناجيان فوق غصن واحد في ظل شجرة مباركة.. نموذج للمناقشة والحوار بين قوم يعقلون وجادلهم بالتي هي أحسن والمعروف أن عمر ابتكر صلاة التراويح في رمضان وإقامة الحد عن شرب الخمر, وكان أول من أخذ الدرة هراوة يؤدب بها الناس إن جاروا عن القصد قليلا أو كثيرا, لا يفرق في ذلك بين كبار الصحابة وغيرهم من الناس.. وقد ضرب سعد بن أبي وقاص بالدرة حين جلس عمر يوما يقسم بين المسلمين مالا, فأقبل سعد وجعل يزاحم الناس حتي وصل إليه فعلاه عمر بالدرة قائلا: اإنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لن يهابكب.. وأعطي عمر الدرة للقبطي وقال له اضرب بها صلعة هذا الرجل عمرو بن العاص لأنه لولاه لما كان ابنه قد اجترأ عليك وقال لك أنا ابن الأكرمين.
ومن أجل جرأة عمر وشدته في الحق ومطابقة القرآن لرأيه في أكثر من موطن, كان النبي صلي الله عليه وسلم يؤثره عنده ويظهر له من ذلك ما كان يقر عينه ويملأ قلبه بالرضي, حتي أنه عندما استأذن النبي مرة في العمرة وقال: إني أريد المشي فأذن له النبي قائلا: أشركنا يا أخي في صالح دعائك ولا تنسنا فكان عمر يقول لقد قال الرسول لي كلمة تعادل لدي الدنيا وما فيها.. وفي الحديث الشريف قول رسول الله: واتقوا غضب عمر فإن الله يغضب لغضبه.. وفي رواية قوله: إن الشيطان يفرق من حس عمر.. وهناك موقفه من رسول الله حين مات عبدالله بن سلول وجاء ابنه يسأل النبي أن يصلي عليه, فأجابه النبي إلي ما أراد, وإذا عمر يغضب ويراجع النبي في ذلك ويجادله بالقرآن مذكرا قوله تعالي في سورة براءة: استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين, ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام يرده إلي الهدوء قائلا: إن ربي خيرني فاخترت.. ثم يصلي علي ابن سلولب.. لكن الوحي لا يلبث أن يطابق رأي عمر, فينزل الله في السورة نفسها هذه الآية الكريمة موجهة إلي النبي تقول: ولا تصل علي أحد منهم مات أبدا ولا تقم علي قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون.. وفي موضع آخر بعد غزوة حنين قسم النبي صلي الله عليه وسلم الفئ, فأعطي المؤلفة قلوبهم من قريش ومن غيرها فأجزل في العطاء, فقام إليه رجل قائلا: اعدل يا محمد, فإنك لم تعدل فظهر الغضب في وجه النبي وقال للرجل: ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟!.. وهنا استأذن عمر النبي في قتل هذا الرجل, فأبي عليه الصلاة والسلام.. ومن هنا كان عمر أيام النبي صلي الله عليه وسلم مزاجه العنف الذي كان النبي يكفكفه ويخفف منه إلي جانب الرحمة التي يؤثرها الرسول ويشجع عمر عليها بالقول حينا, وبالابتسام حينا آخر, ومن غير المعروف أن عمر بن الخطاب قد بكي أثناء جاهليته, ولكنا نعرف أنه كان سريعا إلي البكاء بل النشيج في أكثر الأحيان بعد أن أسلم.. لقد كان كغيره من المؤمنين يمتلئ قلبه وجلا وخوفا إذا ذكر الله كما جاء في الآية الكريمة من سورة الأنفال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلي ربهم يتوكلون.. وإذا ما كان النبي يريد رد المقام في المسجد الحرام إلي مكانه الآن, وكان قبل ذلك ملصقا بالبيت لكنه رأي أن قريشا حديثة عهد بالإسلام فلم يفعل إلا أن عمر قام بما أراده النبي, وقد هدم عمر مسجد النبي صلي الله عليه وسلم ووسع رقعته لما كثر الناس في المدينة وغطي أرضه بالحصي ليكون ذلك أرفق بالناس, وكان المسلمون إذا فرغوا من صلاتهم نفضوا أيديهم المتسخة وأزالوا التراب عن جباههم بشق الأنفس... وأنشأ نظام القضاء وعممه في الأمصار, ولم يجعل للمدينة قاضيا, وإنما كان هو الذي يقضي في شئون المختصمين, وكان إذا جاءه الخصمان برك علي ركبتيه وقال: اللهم أعني عليهما فإن كلا منهما يردني عن ديني.. وكان عمر إذا عرضت له المشكلة نظر في كتاب الله, فإذا وجد حلا قضي به غير متردد, وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسوله, فإن وجد فيها الحل قضي به غير متردد أيضا, وإن لم يجد اجتهد رأيه وقضي بما فيه مصلحة للمسلمين, وكان كثيرا ما يستشير أصحاب الرسول عسي أن يكون عند بعضهم حديث من سنة النبي, وقد هم عمر أن يكتب السنة فاستخار الله في ذلك شهرا ثم عدل عنه قائلا: ذكرت قوما كتبوا كتابا فأقبلوا عليه ونسوا كتاب الله.. وهكذا عندما وجد الصحابة في بعض الأحكام أن ظروفها قد تغيرت في زمانهم عن الظروف التي كانت أيام الرسول والتي أصدر حكمه في ظلها, فغيروا الحكم أو أتوا بحكم آخر يناسب الظروف في أيامهم ويحقق للناس مصالحهم, وكان منطقهم في هذا: إن هذه الظروف الجديدة التي نراها, لو كانت في أيام الرسول لحكم بالحكم نفسه الذي نحكم به الآن تحقيقا لمصالح الناس.. وقد قال ابن القيم: ومن أفتي الناس بمجرد المنقول من الكتب علي اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل..
و..صدق عليه الصلاة والسلام عندما قال لا عبادة كتفكر.. وإن الفكر والمفكرين أشياء لا تنبت إلا في جو الحرية وتطبيقا لما جاء به الإسلام الحق في قوله تعالي وجادلهم بالتي هي أحسن وهذا الجدل أي الحوار وحده يلغي المبرر لوجود الإرهاب والتعصب, فإن وضع الكمامة علي الفم يؤدي إلي التحرك باليد والإمساك بالخناق واستخدام الأرجل في غير موقعها!!
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.