هو شيخ رسامي الكاريكاتير87 عاما أطال الله في عمره يكتب هذه السلسلة عن الشخصيات التي شغلت حيزا في وجدانه وخزانة ذكرياته التي يفتحها لملحق الجمعة ب الأهرام يتناول فيها الكواليس التي عاصرها عبر مشواره الذي يمتد لأكثر من65 عاما.. وتأتي أهمية هذا السرد الذاتي إلي كونه ليس مجرد حكي بقدر ما هو تأريخ وتسجيل لأحداث غنية بالمعلومات والأسرار ولكن غفلها التاريخ كما يحدث عادة وأسقطها من ذاكرته الرسمية, وكما يفعل رسام الكاريكاتير فهو لايرسم الواقع ولكن تأثير الواقع عليه... كذلك كتب طوغان عن هذه الشخصيات بصدق وحب. كانت ليلة الخامس من يونيو عام1967 معتمة يلفها الغموض! وكنا ثلاثة زكريا الحجاوي وعباس الأسواني وأنا نجلس علي كراسي محل في ميدان الجيزة كان يبيع الفطير المشلتت الوارد من دمياط, ولم تكن لنا شهية ولا رغبة, حتي انتهت السهرة ولم تمسسه منا يد! وكان الميدان في إظلام شبه تام نتيجة الأحداث التي كانت تعيش فيها وتتأهب لها مصر هذه الأيام, وكانت المباني حول الميدان تحمل لافتات مكتوبا عليها بمختلف الألوان شعارات حماسية تقول: جينالك يا فلسطين ويا أهلا بالمعارك وفي العقبة قطع الرقبة وكان الراديو منذ الصباح يذيع أنباء الانتصارات التي حققناها علي شراذم المعتدين وأننا أسقطنا لهم خمسا وسبعين طائرة والباقي في الطريق, وبالرغم من الجو المعتم وإحساس داخلي عندي وعند زكريا إلا أن معنوياتنا كانت مرتفعة بعكس عباس الذي كان متشائما! كان يرفض تصديق ما يقوله الراديو ويدلل علي تشاؤمه بذكر أحداث سبقت الحرب يراها تدعو للتشاؤم. وضحك عباس بسخرية ومرارة وهو يقول: هو اللي ناوي يحارب يطلع عساكره ودباباته في التليفزيون؟! أيامها كان التليفزيون يواكب الأحداث ويعرض طوابير الدبابات والمدافع والجنود وهم في طريقهم إلي الحرب! وفجأة انتشر في الميدان عدد من جنود الشرطة نزلوا من لوري كبير, وبدأوا في إزالة اللافتات الحماسية التي كانت تتوعد إسرائيل بأن العقبة فيها قطع الرقبة! واستفز عمل الشرطة بعض الشباب الذين كانوا جالسين علي مقهي قريب, فاندفعوا يحاولون منع الجنود مما كانوا يقومون به, وكاد أن يحدث اشتباك بين الشباب وبين رجال الشرطة, فأسرعنا بالقيام لفض الاشتباك وعندما سألنا الجنود قالوا إنهم ينفذون الأوامر الصادرة إليهم من رؤسائهم! ولتهدئة الشباب وعدد من الناس كانوا قد بدأوا يتجمعون, قلنا لهم لابد أن هناك أسبابا سياسية وراء ما يحدث, والأمر لا يدعو إلي القلق, ومن المؤكد أننا انتصرنا وأصبح لا لزوم للافتات! انصرف الناس وذهب الشبان بعد أن اقتعد واحد منهم الأرض وانخرط في البكاء فحملوه معهم! وتابع الجنود وهم واجمون إزالة اللافتات والإلقاء بها في سيارة لوري, أما نحن فوقعنا في حيص بيص وضربنا أخماسا في أسداس وتعلقنا بفكرة احتمال انتهاء الحرب بعد أن طردنا المعتدين وأصبح لا لزوم للافتات! خصوصا وأنه منذ أيام قليلة كان الرئيس جمال عبد الناصر قد عقد مؤتمرا صحفيا حضره العديد من مراسلي الصحف العربية والأجنبية أبدي فيه ترحيبه بالحرب بيننا وبين إسرائيل, وقال إنه طوال السنوات العشر الماضية لم يكن يشغله شيء إلا إعداد العدة لهذه الحرب! وأضاف الرئيس بثقة وقوة: ونحن الآن مستعدون لها! وعندما بدأت الحرب وجاءت الأنباء بأن مجلس الأمن أصدر قرارا بإيقاف النار رفضه الرئيس عبد الناصر! كان لا يمكن تصور أي احتمال إلا أننا انتصرنا! وأن هناك محاولات تجري لإنقاذ إسرائيل, آخرها دعوة زكريا محيي الدين لأمريكا للتفاهم علي عدم القيام بشن الحرب! وفجأة جاء إلي محل الفطير كمال منسي, وكان أيامها سكرتيرا خاصا للفريق المتقاعد عزيز المصري صاحب السيرة المشهود لها في تاريخ العسكرية المصرية, جاء كمال والحسرة بادية عليه وهمس بأننا انهزمنا! وقال بأن اليهود أبادوا90% من طائراتنا وسيطروا علي الجو ويقومون الآن بتدمير دباباتنا ووحداتنا المتمركزة في مواقعها بلا أي غطاء جوي يحميها, وقال إنه سمع ذلك من الإذاعة البريطانية! فكذبناه وكذبنا الإذاعة البريطانية وقلنا له: ماذا تنتظر منها غير التلفيق والكذب والاستمرار في محاولاتهم لإحباطنا والنيل من معنوياتنا لمصلحة إسرائيل, خصوصا وأن الإنجليز هم أصحاب وعد بلفور الشهير الذي أعطاهم الإذن ومهد لهم الطريق؟! ظللنا في أماكننا حتي الخامسة صباحا, وكان الإرهاق والحيرة والإشفاق قد نالوا منا, فذهبنا إلي بيوتنا واجمين متوجسين بين مصدق ومكذب ومذهول! وفي الواحدة من مساء اليوم التالي ذهبت إلي جريدة الجمهورية وكانت المأساة بادية في كل العيون وعرفنا من وكالات الأنباء الأجنبية أن رفح وخان يونس سقطتا في أيدي اليهود وأنهم علي أبواب غزة! ولا أستطيع وصف الحسرة والألم والدهشة والذهول والإشفاق في عيون الزملاء, ولم يملك واحد منهم هو عميد الإمام الذي ينتمي إلي أسرة فلسطينية كبيرة فقدت كل شيء وجاء لاجئا إلي مصر واتخذ مكانه بيننا كاتبا في الجمهورية, إلا أن يصرخ مرددا في شبه هستيريا والدموع تطفر من عينيه: سرطان.. سرطان! ومع كل ذلك عشنا ما بين مصدق ومكذب إلي أن أذيع صدور الأوامر لقواتنا بالانسحاب من سيناء فأيقنا بأننا خسرنا الحرب! وعرفنا بعض التفاصيل المرعبة! وحدات لنا ذهبت إلي الحرب بالجلاليب! ودباباتنا خرجت بلا ذخيرة, وحتي ماء الشرب كان بعيد المنال, وحتي اليوم لم نعرف المتهم الحقيقي في جريمة تقديمنا لقمة سائغة للعدو! كان الذي حدث فوق الاحتمال وطالت الفجيعة والوجيعة كل الناس علي مستوي الأمة العربية! في الشارع والمقهي والأتوبيس والمدارس والجامعات والمستشفيات وفي كل مكان, وحتي داخل البيوت كان الناس حزاني كالأيتام والثكالي الذين فقدوا الحامي والنصير! تفسخت الكتائب والسرايا وانفرطت الألوية وتمزق الجيش, وكان منظر طائرات العدو وهي تمرح وتتراقص وتعلو وتهبط بلا رادع فوق جحافل أرتال الجنود المتفرقين في الصحراء يدمي القلب, واستطاع بعض الجنود الجوعي المشردين ممزقي الثياب والهاربين عبور قناة السويس سباحة إلي الضفة الغربية, وامتلأت بهم مدن بورسعيد والإسماعيلية والسويس التي كان قد تم إجلاء وتهجير أهلها منها ونقلهم وتوزيعهم علي بلاد وقري الدلتا والقاهرة! وظل الجنود جائعين حائرين وتمكن أصحاب الحظ منهم من الوصول إلي قراهم في الدلتا والصعيد! بل إن بعضهم واصل السير حتي الحدود الليبية التي أمر ملكها السنوسي باستقبالهم وإقامة معسكرات لإيوائهم! وكان اليوم الثامن من يونيو67 يوما من أتعس أيام حياتي عندما سمعنا بأن القوات الإسرائيلية وصلت إلي الضفة الشرقية لقناة السويس, وأن الرئيس جمال عبد الناصر وافق علي قرار إيقاف القتال! وفي اليوم التالي أعلن تنحيه عن السلطة وتسليم المسئولية لزكريا محيي الدين, وما أن انتهي خطاب التنحي للرئيس عبد الناصر حتي اندفعت الجماهير التي جاءت من كل مكان واكتظت بهم شوارع القاهرة تحت أصوات المدافع المضادة للطائرات ونعيق صفارات الإنذار تطالب عبد الناصر بالبقاء! وفي اليوم التالي أذاع الراديو بيانا للرئيس قال فيه: إزاء المشاعر الفياضة التي أظهرها المواطنون وأعضاء مجلس الأمة فإنه سوف يذهب غدا إلي المجلس للنقاش مع نواب الشعب في موضوع تنحيه عن السلطة! وفي اليوم التالي وفي الموعد المحدد لوصوله إلي مجلس الأمة الذي كانت تحيط به الجماهير وتملأ الشوارع المؤدية إليه في انتظار الزعيم, أذاع الراديو بيانا للسيد زكريا محيي الدين أعلن فيه عدم موافقته علي اقتراح توليه منصب رئيس الجمهورية, كما قال بوجوب استمرار الرئيس جمال عبد الناصر في موقعه ليقود الأمة إلي النصر! بعدها أعلن المذيع الانتقال إلي مجلس الأمة, وفي مجلس الأمة أعلن رئيسه حين ذاك أنور السادات اعتذار الرئيس عن عدم الحضور نظرا لاكتظاظ الشوارع بالجماهير التي حالت دون وصوله! ثم أضاف وهو يرفع رسالة في يده قائلا: ولكن جمال أرسل الرسالة الآتية لنواب الشعب, وراح يقرأ فيها قول عبد الناصر: إن صوت جماهير شعبنا بالنسبة لي أمر لا يرد ولذلك فقد استقر رأيي علي البقاء في مكاني وفي الموضع الذي يريده الشعب مني أن أبقي فيه حتي تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعا من إزالة آثار العدوان! انفعل النواب وصرخوا بالهتاف لعبد الناصر بطل وزعيم الأمة وزادوا في الفرح والسرور, فاندفعوا في الرقص والتهليل! واختنق صوت السادات ولم يستطع تكملة قراءة الخطاب, فتناوله منه المهندس صدقي سليمان الذي كان رئيسا للوزراء, وقرأ باقيه الذي يؤكد فيه عبد الناصر تراجعه عن التنحي, فعاود النواب الهتاف والتهليل والرقص!! بينما في الخارج كان الموقف مختلفا, بدأت الصور التي كانت تأتي بها الوكالات الأجنبية للآلاف من ضباطنا وجنودنا في صحراء سيناء وهم معصوبو العيون وأيديهم مربوطة خلف ظهورهم ووجوههم مدفونة في التراب! كما جاءت الصور أيضا بآلاف الجثث بعضها مازالت فيه بقايا حياة وهي مقطعة ممزقة ومنشورة علي رمال الصحراء تنهش فيها الضواري والجوارح وتأكل منها الذئاب والكلاب السعرانة! هبطت المعنويات إلي الحضيض, ويوم11 يونيو كنت مع عباس الأسواني نسهر علي مقهي الفيشاوي بحي الحسين, وكنا نجلس إلي جانب الحاج فهمي صاحب المقهي, وفجأة انطلقت صفارة إنذار بغارة جوية وجاء من يقول للفيشاوي في هلع وذعر: حيضربونا ياحاج!, وقال الحاج فهمي في سخرية مرة: يضربونا ليه... هوه إحنا عملنالهم حاجة؟!. لم تكن ثقتي في الثورة وفي قيادة عبد الناصر قد أصابها ما أصاب ثقة عدد أصبح يتزايد من الناس, ولم تستطع كلمات عباس ولا ما تأتي به الأنباء زعزعتها, وفجأة انطلقت من أحد حواري الحسين مظاهرة تصرخ هتافا بحياة عبد الناصر الذي بقي رئيسا لهم ومسئولا عنهم, فأشرت للجماهير وقلت لعباس: بص.. آهو ده الرأي العام ورد عباس بسخريته اللاذعة المعروفة عنه: واحد قال للناس إن هو الوحيد اللي يعرف يسوق الأتوبيس وخدهم ونزل بيهم في وش الترعة وبعدين قال لهم أنا ماشي.. يسيبوه؟!. وبالرغم من كلام عباس الذي حاول إقناعي حسب قوله بإزالة الأوهام من رأسي المشحون بالدعايات والأكاذيب وزاد فقال إنني تطرفت في الثقة بعد النصر, وإنه بشر مثلنا ممكن أن يخطئ, وها هو أخطأ فقادنا إلي الكارثة! بدأت ثقتي تهتز ولم أنم ليلتها من التفكير وأخيرا استقر بي الرأي علي كتابة خطاب للرئيس عبد الناصر, كتبته وذهبت به إلي منشية البكري حيث منزل الرئيس وقابلت محمد أحمد السكرتير الخاص والذي كانت لي به معرفة سابقة يوم أن قدمت لعبد الناصر كتابي الثاني قضايا الشعوب الذي أصدرته في عام57 وكان يضم عددا من رسومي السياسية التي نشرتها جريدة الجمهورية! كان محمد أحمد من الضباط الأحرار وكان أفضل العناصر التي كانت تحيط بعبد الناصر, كما كان دمث الخلق مهذبا كريما مضيافا, وكان من عادته أن يحسن استقبال الناس, فأحسن استقبالي وسألني عما يمكن تقديمه لي فدفعت له الخطاب, وكان مكتوبا بالقلم الجاف وعلي ورق الدشت وهو الورق الذي تطبع عليه الصحف, فقرأ الخطاب ونصحني بأنه من المستحسن أن يكون مكتوبا علي الآلة الكاتبة وعلي ورق أبيض, وأن أعود به في اليوم التالي, ولما لم أكن وقتها أملك آلة كاتبة وكنت قليل التقدير لمثل هذه الأمور, كما كنت قد اجتزت عدة بوابات إلي أن وصلت إلي مكتبه قلت له: معلش قدمه كده, ده خطاب من مواطن عادي بلا بروتوكول, وتركت له الخطاب الذي كنت قد كتبت فيه: سيادة الرئيس إن لكل جواد كبوة وإن ما حدث لن يقضي علينا ونحن جميعا مشتركون في تحمل المسئولية, وأنا كصحفي أقول بأننا نتحمل قدرا كبيرا منها وأننا كنا نعيش في واد والشعب والأحداث في واد آخر, وأن الجمهورية جريدة الثورة التي أنت صاحب امتيازها نشرت يوم4 يونيو موضوعا ملأ نصف الصفحة الثانية منها عن الحب المشتعل بين الممثل رشدي أباظة والممثلة صباح, وأن رشدي استأجر شقة خاصة يلتقي فيها بصباح بالإضافة إلي صورتين كبيرتين للممثلين وهما متعانقان وتحتها خبر يقول بأن الصحفيين مازالوا عاجزين عن العثور علي مكان الشقة الخاصة ومازالوا مستمرين في البحث وسوف يواصلون إعلام القراء عندما يجد جديد! ولما كان الإعلام من أهم الأسلحة فقد كان ينبغي الالتفات إليه, وأنا أكتب هذا الخطاب لسيادتكم من منطلق الإخلاص لكم والثقة بكم والأمل فيكم, وشأن كل المصريين والعرب, أدرك أنكم رب الكيان وبقيادتكم وبالتفاف الناس حولكم سوف نسترد الأرض ونحصل علي النصر, وكل ما علينا هو الالتزام بالجدية وتقدير الخطر وإشراك الناس في الأمر, ودعائي لله أن يديم علي سيادتكم الصحة والتوفيق وهو المولي وهو النصير, ووقعت باسمي! أحمد طوغان رسام الكاريكاتير بجريدة الجمهورية! لم أعرف رد الفعل لخطابي وهل قام محمد أحمد بتسليمه للرئيس أم لا؟ وحدث لي عندما ذهبت في اليوم التالي إلي الجريدة أن وجدت الغرفة التي أعمل فيها فارغة ولم أجد مكتبي ولا طاولة الرسم! وقيل لي إن فتحي غانم وكان أيامها رئيسا لمجلس الإدارة ومعه المدير العام نبيل العطار بالإضافة إلي معاون الدار جاؤوا ونقلوا ما يخصني من الغرفة! ربما عقابا لي علي الكتابة للرئيس من وراء ظهورهم! ومنذ ذلك اليوم وأنا بلا مكان ولا مكتب ولا طاولة رسم, ومنذ ذلك التاريخ يجري التعامل بيني وبين الجمهورية عن طريق الفاكس! كان خطابي لعبد الناصر قد منحني بعض الراحة النفسية, وأملت به أن أكون قد أديت واجبي, وعشت علي أمل في أن يتغير الحال, وأن ندرك هول ما حدث لأن الذي حدث فوق القدرة علي الاحتمال وطعم الهزيمة يسد النفس ومذاقها مر كالعلقم ولهيب الحزن يحرق القلب, وتجمع الناس في النوادي والمنتديات يطالبون بالكشف عن أسباب الهزيمة وارتفعت أصواتهم تنادي بضرورة الحساب وتقديم المتسببين فيها للعدالة! وكان أن ارتفع صوت أقوي من كل الأصوات عبر الصحف والراديو والتليفزيون أذيع مئات المرات يقول: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة, وأن كل شيء مؤجل حتي تتم إزالة آثار العدوان! ثم طلعت علي الناس الأغاني التي تقول العتبة جزاز والسلم نايلون نايلو, والأكس في التاكس والعملية في النملية! فقد الناس ثقتهم في القيادة وراحوا يتلمسون الأنباء والتعليقات من الإذاعات الأجنبية, وعرفوا أن إسرائيل استدرجت مصر إلي كمين مرتب ومعد له بعناية وأنها اختارت الوقت المناسب لها ولجأت إلي الحرب للخلاص من خطورة وضعها الداخلي الذي كاد أن يهددها بالزوال! أيامها كانت إسرائيل تعيش في شبه انهيار اقتصادي وارتفعت فيها البطالة بشكل مخيف وهبط معدل استثمار الأموال الأجنبية إلي حد كبير, كما ارتفع عدد نزوح المهاجرين منها إلي الخارج في نفس الوقت الذي تقلص فيه بشكل واضح تيار الهجرة إليها وازداد عدد المواليد العرب فيها مما ينذر بتحويل اليهود إلي أقلية, كما ظهرت حركة فتح التي أعلنت بأنها قامت لتحرير فلسطين ولم تلبث أن تمكنت من القيام بغارات علي المباني والمنشآت وأسقطت أعدادا من القتلي وأشاعت الفزع في نفوس الإسرائيليين! وارتفع صريخ دافيد بن جوريون يناشد يهود العالم إنقاذ إسرائيل وقال إن مستقبل دولة إسرائيل أصبح غير مضمون, وخيم القلق والرعب علي الدولة التي لم يكن عمرها قد جاوز التسعة عشر عاما! وعلي الجانب الدولي كانت العلاقة بين أمريكا وبين مصر قد اقتربت من حافةالهاوية وبينها وبين بريطانيا كانت في أدني مستوياتها وبينها وبين ألمانياالغربية مقطوعة بالكامل! وفي المحيط العربي كانت العلاقات بالغة السوء بين السعودية ومصر بسبب الحرب في اليمن, وكان الأردن في حرب إعلامية شعواء مع سوريا بسبب موقف الأردن من منظمة التحرير الفلسطينية, والعراق يشن حملة كراهية ضد سوريا وتونس قطعت علاقاتها بمصر بعد خطاب كان قد ألقاه الرئيس عبد الناصر ونال فيه من الرئيس التونسي الحبيب بورقيبه! كان الوقت مناسبا لإسرائيل في استدراج مصر إلي الكمين والقيام بالحرب, وكان من أهم أسباب تفكير إسرائيل للقيام بالحرب هو أن قسما كبيرا من الجيش المصري في اليمن! وجاءت إلي مصر معلومات من اللواء أحمد سويدان رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة السورية تقول بأن إسرائيل تحشد قواتها للهجوم علي سوريا, وتدعيما لهذه الأنباء أبلغت القيادة السوفيتية مصر بأن إسرائيل تعد للهجوم علي سوريا! كانت مصر قد عقدت معاهدة دفاع مشترك بينها وبين سوريا فاعتبرت الحشود الإسرائيلية تهديدا لها وأصدر المشير عبد الحكيم عامر أمرا بإعلان حالة الطوارئ في القوات المسلحة, وبدأت الوحدات والألوية باحتلال مواقعها في سيناء حسب خطة كانت موضوعة سلفا وبدأت الأرتال تتوالي من القوات علي سيناء! طرأت فكرة بإرسال الفريق محمد فوزي رئيس الأركان إلي سوريا لدراسة الموقف والعودة بتقرير عن حجم وطبيعة الحشود الإسرائيلية, وعاد فوزي ليؤكد كذب الادعاء بوجود حشود أمام سوريا وأنه قام بكل ما يلزم فلم يجد دليلا واحدا علي وجود أي نوع من أنواع الحشود! وبالرغم من ذلك استمر تدفق الجنود إلي سيناء ومعهم عدد كبير من جنود الاحتياط غير المدربين والذين جاءوا بهم علي عجل إلي درجة أن عددا منهم ذهب بالجلاليب! وقيل يومها سبب يدعو إلي الضحك وهو أن القصد إظهار ضخامة الحشد! كان لمحمود السعدني وأنا عادة الجلوس أمام محل مكوجي في أحد شوارع الجيزة صاحبه كان اسمه عبده بكر وكان من قراء السعدني وكان يفرح باستضافتنا ويقدم لنا الشاي والقهوة, والسجاير, وخلال إحدي جلساتنا عنده جاءه من يقول عن وجود عسكري قادم من الحرب يجلس علي مقهي عبد البر الذي كان علي بعد خطوات! ذهبنا إلي حيث العسكري, كان من أبناء الصعيد من بلدة اسمها درنكه لم يخرج منها في حياته إلا في سنوات التجنيد التي قضاها في سوهاج, قال بلهجته الصعيدية إنهم استدعوه قبل أيام من بداية الحرب وبعثوا به مع بعض شبان البلدة إلي القاهرة ثم نقلوهم مع آخرين إلي لواري ركبوها وبعد تسع ساعات أنزلوهم ووزعوهم علي وحدات في الصحراء عرف بعدها أنها سيناء وأعطوه جهاز لاسلكي وقالوا له: ده تحافظ عليه بعنيك, وضحك قائلا إنه في حياته لم يسبق له أن رأي لاسلكي ثم تابع: نزلونا أنا واتنين معايا في حفرة في الأرض, وبعدين سمعنا هيصه, طليت لقيت عساكر ماشيين ياما! قلت رايحين علي فين؟! قالوا: منسحبين! قلت خدونا معاكم وسبنا اللاسلكي وطلعنا مشينا معاهم وفي السكة قابلونا اليهود! ثم أضاف في استعلاء: انتوا تجولوا عليهم يهود؟ دول إنجليز! سألونا رايحين علي فين؟ قلنا لهم مروحين, وكان معانا واحد ضابظ صغير, خدوه علي جنب وجالوا له يركع ع الأرض! مارضيش الله يرحمه, راح واحد منهم مطلع المسدس وضربه تلات رصاصات! وبعدين فتشونا وأعطوا كل واحد فينا شندوشت, كنا خمسة, وجالوا لنا يالله امشوا بس ما تجوش هنا تاني!. كان الناس في المقهي قد جمعوا للجندي ثمن تذكرة السفر بالقطار إلي بلدته فيالصعيد الجواني وغادر المقهي بعد أن وصف الناس له الطريق إلي محطة القطار فيالجيزة! قبل الحرب واستمرارا لمخطط توريط مصر, كانت المهاترات قد بدأت من بعض الإذاعات العربية تتهم عبد الناصر بالجبن وعدم الجدية في محاربة إسرائيل وأنه يحتمي خلف قوات الطوارئ الدولية المرابطة علي الحدود بيننا وبين إسرائيل! وكان رد فعل عبد الناصر أن طلب إزاحة القوات الدولية من علي حدودنا وأعلن أنها إذا لم تنسحب فسوف تعتبرها مصر قوات معادية وتنزع سلاحها, وإزاء إصراره انسحبت القوات الدولية! وكانت أكثر الخطوات خطورة في التصعيد نحو الحرب هو أمر أصدره المشير عبد الحكيم عامر بإغلاق خليج العقبة في وجه السفن التي ترفع العلم الإسرائيلي وكذلك جميع السفن التي تحمل بترولا إلي ميناء إيلات مهما كانت جنسياتها! وفي يوم23 مايو قبل الحرب باثني عشر يوما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر منع الملاحة في خليج العقبة فأصبحت الحرب بيننا وبين إسرائيل مؤكدة! يومها جاء أمر غريب لم يحدث لأمة من الأمم في التاريخ صففت جيشها في مواجهة العدو, بضرورة انتظار الضربة الأولي فكانت هي الضربة الأولي والأخيرة! عندما قامت الثورة واستتب لها الأمر, راح الثوار يفكرون في الخطوات التالية, وبالنسبة للجيش لم يتجه تفكيرهم إلي البحث من بين ضباطه عمن فيه الخبرة والكفاءة لقيادته وكان أن عهدوا إلي واحد منهم يحمل رتبة رائد بتدبير شئونه ورفعوه إلي رتبة المشير وولوه القيادة! وإلي جانب الجيش ولمزيد من الثقة فيه عهدوا إليه برئاسة لجان لتصفية الإقطاع بالإضافة إلي لجان القضاء علي الرأسمالية المستغلة والإشراف علي مؤسسات الدولة واختيار العناصر الملائمة لها وتنظيم النوادي الرياضية وحتي مرفق النقل العام أضافوه للمشير! ولما كان من شيمة الشعب المصري خفة الدم والصبر في مواجهة الأمور بالنكتة والسخرية فقد دارت بين الناس أيامها نكتة تقول بأن سائقا لأتوبيس لم يكن يحسن السواقة وظلت السيارة تترجرج بالركاب واختل توازنهم ووقعوا فوق بعضهم فهم واحد منهم إلي تنبيه السائق ولكن جاره لفت نظره إلي أن المشير هو المشرف علي المرفق فقال: يبقي بقي إحنا اللي مش عارفين نركب! كما كان المشير عامر قد أمر بتحويل كل شكاوي المواطنين إلي إدارة أنشأها بالقوات المسلحة للنظر فيها, كان من ضمنها شكوي تقدم بها رئيس مجلس إدارة دار التحرير ضد العاملين فيها, وكان رئيس مجلس الإدارة مقربا من المشير, وفوجئنا بمجموعة من ضباط وجنود الشرطة العسكرية اقتحمت الدار وأعملت الضرب فيمن قابلهم من الصحفيين والإداريين, اعتقلوا منهم من اعتقلوه وكان من بينهم مهندس مصري كان اسمه أحمد شوقي كان في الخامسة والستين, جاء من ألمانيا عندما سمع بالثورة وعمل في المؤسسة لإدارة المطابع, بعد خروجه من المعتقل بأيام مات! كان انعدام الثقة قد قام بين الشعب والجيش ومع ذلك قبل الناس بما لا يقبل أملا في استعادة الأرض السليبة وإنقاذ المظلومين ضحايا الإرهاب العالمي المتمثل في الجيش الذي قلنا عنه جيش العصابات! وكانت النتيجة كارثة5 يونيو1967 التي خرجت منها مصر العريقة, أرض الكنانة, صاحبة التاريخ, مهزومة جريحة كسيفة البال وأكدت إسرائيل وجودها وحققت الأسطورة التي كانت تروجها وهي أنها تملك جيشا لا يقهر! كما استطاعت الاستيلاء علي شبه جزيرة سيناء وراحت تخرج وتسرق ما في بطنها من موارد وكنوز, واستولت علي الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة ومرتفعات الجولان السورية التي مازالت في يدها حتي الآن بالإضافة إلي القدس الشريف أولي القبلتين وثالث الحرمين الشريفين والذي يعاني يوميا من العدوان والهوان! سبب انتصار إسرائيل ذهولا في كل أنحاء العالم, في الغرب كان الحدث محلا للرضا والحبور وزيادة معدلات الهجرة التي تدفقت علي إسرائيل, كما تضاعفت الأموال والمساعدات العسكرية الأمريكية لها عشرات المرات, ودخل في روع الأمريكان أن إسرائيل هي وحدها من يمكن الاعتماد عليه في تحقيق الاستراتيجية الأمريكية بالمنطقة! وبدأ اقتصاد إسرائيل الذي كان محدودا يعتمد كله علي المعونات, في الانتعاش بالإضافة إلي استغلالها للموارد الطبيعية في الأراضي التي استولت عليها, ووصلت توابع انتصار إسرائيل إلي الدول الإفريقية التي فتحت أسواقها ووضعت مواردها ومواردها الخام في أيدي النهابين! كل ذلك عرفه الناس من المصادر الأجنبية التي جاءت عبر الإذاعات وبعض الصحف التي تسربت سرا إلي الأيدي, وكان أخطر ما في الأمر فقدان الثقة بين الشعب وبين قواته المسلحة المظلومة التي كان الرجل الثاني الذي يتولي قيادتها نقيبا قفز إلي أن أصبح وزيرا للحربية! وأذكر أيامها أن جاءني الصديق المثال كامل جاويش وطلب مني مصاحبته ليدفع ما عليه من ضرائب, وكان فرع المصلحة في شارع ابن حيان بالجيزة وأعتقد أنه ما زال هناك, وعندما قرأ جاويش بيان المطالبة وفيه بند مكتوب عليه ضريبة دفاع انفعل في عصبية وصرخ: دفاع إيه؟! دول جريوا! ولما التف حوله الموظفون يقولون: يا أستاذ كامل إحنا مالناش دعوة جريوا والا ما جريوش ده ورق لازم نسدده! أصر كامل علي عدم الدفع وتأزم الموقف ووصل الأمر إلي المسئولين الكبار في الإدارة المركزية, واتقاء للفضيحة أمروا بإعفاء كامل من دفع الضريبة وكان المثال كامل جاويش هو المواطن المصري الوحيد علي مستوي مصر كلها الذي لم يدفع أيامها ضريبة الدفاع! علي مدار الزمن كانت سمعة الجيش المصري تسبقه بتاريخه الزاخر بالبسالة والشجاعة والعزة في كل المعارك التي خاضها خلال مسيرته الطويلة عبر الزمان! ومازلت علي يقين من أنه سوف يأتي اليوم الذي يعرف فيه الناس, ما حدث لنا في يونيو67, وكيف حدث؟! ولماذا؟! ومن هو المسئول؟! هل هو الحاكم.. أم هم الناس.. أم أن الاثنين معا شريكان فيما حدث لنا في يونيو1967 ؟! من الواجب أن نعرف ما حدث بالتفصيل, وإلا فإننا نكون كالنعام, ندفن رؤوسنا في الرمل ونعمي عيوننا عن رؤية الطريق!