إذا كنت ممن يراودهم الشك في قدرة المصريين علي حماية انتمائهم الوطني ودولتهم التي بنوها لتكون جامعة لهم جميعا, ليتك تعود إلي تاريخنا الحديث لمتابعة تطور حركة الجماعة الوطنية المصرية لبلورة هذا الانتماء وتأكيده والانفصال تدريجيا منذ بداية القرن التاسع عشر عن الدولة العثمانية بمفهومها المتعارض مع خصائص الانتماء الوطني. وتفيد العودة إلي هذه المرحلة في إدراك أن المفهوم الطائفي الذي يحاول البعض إعادة إنتاجه اليوم لتغيير طبيعة الدولة الوطنية صار تاريخا مضي حتي إذا كان من يسعون إلي إحيائه نجحوا في اختراق المجتمع مستغلين التجريف الهائل الذي تعرض له في العقود الماضية. فقد تم الانتقال من العثمانية إلي المصرية عبر تحول تاريخي تغير خلاله المصريون في العمق. فكان انتقالا من نمط للحياة في معظم جوانبها إلي نمط آخر, وليس فقط من عصر أقدم إلي زمن أحدث. وليس في امكان من يعيشون بعقولهم في ذلك العصر العثماني حتي اليوم أن يعيدوا عقارب الساعة إلي الوراء. فالتاريخ لا يعيد إنتاج نفسه إلا في صورة مأساة أو ملهاة. وها نحن اليوم في قلب المأساة التي تقترب من ذروتها دون أن يتأثر المصريون, أو قل أغلبية كبيرة بينهم, بمحاولات اضعاف الانتماء الوطني الذي رسخته طلائع أجيال متوالية. فلم يكن الانتقال من العثمانية إلي المصرية إلا تعبيرا عن استعادة شعبنا روحه الوطنية وطابعه المتميز. فهذا شعب يقل مثله في العالم. حكمه أجانب فدمج الكثير منهم فيه ولم يندمج فيهم. وكان حكام مصر من أسرة محمد علي آخر دليل علي ذلك. فمن يقرأ عن معظمهم, دون أن تكون لديه خلفية كافية, يظن أنهم ليسوا فقط مصريين بل من طين هذا الوطن الذي دمجهم فيه. وهم يختلفون عمن سبقوهم من الولاة العثمانيين والمماليك في أمرين: أولهما أنهم حكموا مصر في لحظة بلوغ تراكم النزعة الوطنية المصرية ذروته. والثاني هو أن من سبقوهم لم يمتزجوا بالمصريين بل عاشوا مترفعين وغير معنيين إلا بجمع الأموال والثروات لأنفسهم ولخزائن الباب العالي. فلم يكن لأي منهم طموح يتجاوز هذه الجباية فبل محمد علي الذي ألهمته مصر مشروعا اعتمد فيه علي شعبها في لحظة تحول تاريخي كان عميقا علي نحو يستحيل اعتباره مرحلة يمكن شطبها والعودة إلي ما كان قبلها بأي شكل وتحت أي شعار. لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد