كان السقوط المدوي لرأس النظام السابق, في ثورة لا تكتمل سوي باسقاط النظام كاملا, راجعا أساسا الي أمرين رئيسين, أولهما انعزاله عن هموم شعبه ومطالبه, وأمانيه, والثاني انقطاع صلته العضوية بنظام دولي تتغير القواعد التي تحكم عمله. فصار وضعه في الداخل هشا, وان تصور هو عكس ذلك, وصار وضعه في إطار النظام الدولي الذي ينتمي اليه كدولة, نوعا من جيوب مقاومة, لتحولات كبري وتاريخية تجري في العالم. فمنذ سقوط الأنظمة الشمولية في عام 1989, أصبحت الديمقراطية, شرعية أي نظام حكم. وانطلق في العالم تيار تصفية الأنظمة الشمولية, والدكتاتورية, مثلما كان قد سبقه في الخمسينيات والستينيات تيار تصفية الاستعمار. كبؤر لم يعد العصر يتقبل وجودها. منذ ذلك الحين (1989), تطور مفهوم الديمقراطية, لتتحدد معالمها في الديمقراطية المسئولة التي تستوعب جميع التوجهات في توافق وطني, ومشاركة سياسية, مثلما توالي حدوث تغييرات في مفاهيم الأمن القومي للدولة, وأمن المجتمع الدولي بشكل عام, وتغيرت مفاهيم مكونات قوة الدولة ومكانتها, وكذلك معايير التنمية الاقتصادية وغيرها. ولم يعد مفهوم الديمقراطية يقتصر علي كونه توصيفا لنظام سياسي, بل أصبحت الديمقراطية المسئولة مدخلا الي التنمية الاقتصادية الناجحة, وحماية الأمن القومي, والارتقاء بمهارات المواطنين, وضمانات واستقرار وتماسك الجبهة الداخلية, وأصبح أي خروج علي الديمقراطية المسئولة ومحاولة فريق الاستئثار بالسلطات, يعني إعادة انتاج لفكر الأنظمة الشمولية, الجاري تصفيتها, مهما اختلفت المسميات والايديولوجيات. والآن تشهد الساحة السياسية في مصر, إصرارا من القوي المؤمنة فعلا وعملا بالثورة, المنخرطة في حركة تيار تاريخي يشيد أركان الديمقراطية وعلي ان ما حدث في 25 يناير هو ثورة حقيقية, تزيح بقايا نظم استبداد ويواجه هذه القوي من بقايا النظام السابق الذين يصرون علي التصرف مع ما جري في 25 يناير, علي انه هوجة مواطنين, وليس ثورة كاملة, حتي ولو حاولوا أحيانا التغني بالثورة, تفاديا لصدام مع التيار العام في سلوك يعكس ازدواجية التناقض بين القول والفعل, ويعبر موقفهم عن عجز عن فهم العالم الذي صار التغيير فيه هو فلسفة العصر وقاعدة عمله, خاصة بفعل وسائل ثورة المعلومات. هؤلاء غفلوا عن استيعاب ما حدث في دول كانت لسنوات قريبة فقيرة ومتخلفة بالمقارنة بمصر لكنها تمكنت من النهوض والتقدم, وأصبحت قلاعا منتجة, وانتعشت فيها الطبقة الوسطي, وتجددت مشاعر الولاء, والكرامة الوطنية. هؤلاء الذين ينكرون ان ما حدث في مصر ثورة محاولين الإبقاء علي نظام, كان قد انفصل فعلا بسياساته وطرق تفكيره, عن عالم تغيرت فيه الأفكار والنظريات السياسية والاقتصادية مثلما تغير المزاج النفسي للمواطن في الداخل, بحكم اطلاعه علي ما يجري خارج بلده, عبر وسائل الاتصال الحديثة, وأقربها اليه الفضائيات التي تخاطبه وهو جالس في بيته, وتنقل اليه صورة يومية مباشرة عن الدنيا وما فيها.
ان النظام السابق لم يكن مجرد مجموعة أشخاص يتحكمون في سلطات الدولة, ومراكز قوتها السياسية والاقتصادية, ولكنهم كانوا مجموعة تحمل نمط تفكير يدور في فلك منظومة تفكير النظام الذي يتمحور حول شخص, وهي منظومة تفكير لا تنتج تقدما, بل تجر البلد الي الجمود, والتردي, وليس أدل علي ذلك, مما صنعته أيديهم في التعليم, والصحة, وعرقلة أي حراك اقتصادي منتج, ودعمهم لمبدأ الاستيراد, جلبا للعمولات بالملايين في كل صفقة, وهو ما ساعد علي انتشار البطالة, والقضاء علي أي فرص للأجيال في التوظف, والسكن, وتكوين أسرة, ثم في النهاية تفشي الإحباط العام, الذي جعل البلد طاردا لأبنائه. في هذه الأجواء التي تعيشها مصر الآن, فإن الذين يدركون عن وعي أن الثورة كانت بعثا لروح مصر, يواجهون حربا يومية منظمة تستخدم أخطر وسائل العنف والتخريب, لإجهاض الثورة, وإجهاد المصريين في معيشتهم اليومية, يدير هذه الحرب أصحاب المصالح الذين أباح لهم النظام سبيل الكسب بأي وسيلة, ويدور حولهم قطاع من الذين ترسبت في عقولهم مواريث عصر عودهم علي أن يقيسوا الأمور بالكلام الذي يقال, وليس بالأفعال والنتائج, فبدوا مغيبين عن الدنيا وما فيها. في إطار هذا الوضع تظل الآمال في مستقبل مصر, معلقة علي مجيء رئيس يحمل مواصفات رجل الدولة.. رئيس قاريء للتاريخ, قادر علي تشخيص الحالة المصرية.. مترفع علي علة التحيز لحزب, من منطلق إيمان بأنه جاء ممثلا للمصريين جميعهم, وبلا أي تمييز. .. رئيس لديه معرفة بالعالم الذي يتغير من حول مصر, ويخرج مصر من الركن المنعزل, عن عالم يتغير بإيقاع بالغ السرعة. .. رئيس يعوض مصر عن سقطة إزاحة مبدأ الأمن القومي من تفكير النظام, واستبداله بمبدأ أمن النظام, المستند الي فكر الدولة البوليسية, وذراعها الباطشة من أمن الدولة.
.. رئيس لا يحصر نظرته في الواقع الحالي لشئون الدولة, بل يمد البصر الي الأفق المتسع أمامه, ليحسب ما هو مرئي فيه, وما هو محتمل, وتجهز له الخيارات والسياسات, حتي ولو كان هذا الاحتمال مستبعدا في ظروف الحاضر. .. رئيس يصنع خططا للمستقبل من منظور استراتيجية أمن قومي, وبشرط ان يحيط نفسه بفريق معاون, من أصحاب الخبرة والعلم, والمعرفة والتخصص, يختارون بمقاييس القدرة, وليس بمعايير الولاء لشخصه أو حزبه أو جماعته. .. رئيس ملتزم بروح الثورة ومبادئها, ويعدل الخلل الذي صنعه آخرون من إقصاء للذين صنعوا هذه الثورة. من الطليعة من الشباب, ومن قطاع من النخبة, مهدوا لهم المناخ, عبر عشر سنوات من حملات إيقاظ الحس الوطني, بمواقف احتجاجية وندوات, وكتابات, ضد سياسات النظام السابق وكلهم معروفون بالاسم. .. رئيس لكل المصريين, ولثورة المصريين. المزيد من مقالات عاطف الغمري