عنوان المقال ينتهي بعلامة استفهام, لأننا لم نصل بعد إلي هذا المواطن العالمي, وإن كان ظاهر الأمور واستقراء التاريخ البشري يوحي بأن التطور يسير في هذا الاتجاه. فنحن نعيش الآن في إطار دول قومية, وتقوم بين الشعوب علاقات تتفاوت بين الصداقة والعداوة. فالفرد ينتمي إلي وطن قومي, ولا يوجد ما يعرف بالمواطن العالمي الذي ينتمي إلي الجنس البشري في مجموعه مع استمرار ارتباطاته العائلية أو مشاعره القومية وتاريخه الشخصي وخصائص الجماعة أو المهنة التي ينتمي إليها. وإذا كان الإنسان حيوان اجتماعي يعيش دائما وسط جماعة, ولا يتصور أن يعيش منفردا, فقد تطورت هذه الجماعة من العائلة بالمعني الواسع التي ترتبط برابطة الدم, إلي العشيرة أو القبيلة, وذلك حتي ظهور المدن التي تجاوزت رابطة الدم, ثم جاءت الدولة الزراعية القديمة, وأخيرا ظهرت الدولة السياسية والتي عرفت بدورها تطورا كبيرا حتي وصلت إلي مفهوم الدولة الوطنية أو القومية. فهل هذه هي نهاية المطاف أم أننا نسير في الطريق إلي مزيد من الترابط والتداخل بين الشعوب حتي نكاد نصبح مواطنين عالميين؟ لا يكفي لاستقراء هذا المستقبل أن نتوقف عند قراءة التاريخ البشري, بل يجب أيضا أن نقف علي المكونات العضوية والنفسية أو الفكرية للجنس البشري. فإذا كان الإنسان يشترك مع غيره من الكائنات الحية في أنه محكوم بالجينات الوراثية التي يتلقاها من والديه, فإنه يتميز عن بقية هذه المخلوقات بما يتمتع به من مخ كبير وبالغ التعقيد. فحجم مخ الإنسان بالنسبة لحجمه هو أكثر بكثير من باقي أعضاء المملكة الحيوانية. ويمثل هذا المخ جهازا بالغ التعقيد والدقة, فعدد الخلايا والأعصاب والترابطات قد تصل فيه إلي مئات البلايين فضلا عن الوصلات بينهما, بما يجعله أكبر معجزة كونية. ورغم أن هذا المخ لا يتجاوز عادة 2% من وزن الإنسان فإنه يستهلك ما يزيد علي20% من الطاقة التي يحتاجها الجسم. وقد مكن هذا المخ الإنسان من السيطرة علي الطبيعة, وبذا أصبح الكائن الوحيد الذي لا يقتصر علي التعايش مع البيئة التي تحيطه لكي يغير من شكلها ويطورها لصالحه. وبذا أصبح الإنسان وحده صاحب حضارة, وذلك بقدرته الفائقة علي إخضاع الطبيعة لصالحه بعد أن كشف عن قوانينها وسخرها لخدمته. ومن هنا اصبح للإنسان تاريخ. فالإنسان المعاصر ليس هو تماما الإنسان البدائي الذي عاش قبل مائة ألف سنة أو يزيد. وفي كل يوم يفتح الإنسان أبوابا جديدة تزيده قدرة وسيطرة علي المحيط الذي يعيش فيه. والسبب في هذه الطفرة الهائلة في حضارات البشرية ترجع إلي أن الإنسان وحده ليس فقط وليد خصائصه الوراثية من خلال الجينات, بل إنه نظرا لما يتمتع به من مخ كبير ومعقد فإنه يتمتع بمخزون ثقافي باعتباره كائنا متعلما. فإذا كانت الجينات تعطي التعليمات لبناء خلايا الجسم وفقا لمواصفات محددة موروثة من الوالدين, فإن المخ يمكن الإنسان من شيء مهم وخطير وهو القدرة علي التعلم من التجربة والفضول للابتكار والتجربة والخطأ. ولكن الإنسان قادر أيضا علي قراءة ما يدور في أذهان الآخرين ويستخلص بعض السيناريوهات المحتملة لتصرفاتهم ويحدد سلوكه علي أساسها. وهكذا بدأ الإنسان يفكر ويخطط. وكان كل هذا نتيجة لظهور اللغة. وعن طريق اللغة بدأت أول مظاهر التعاون بين الأفراد, ومع تعاونهم بدأت مسيرة الحضارات التي تتجه رويدا نحو العالمية. لا ينبغي أن يفهم مما تقدم, أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتواصل مع أقرانه, فالحيوانات تتواصل أيضا بطرق مختلفة, ولكنها لا تعرف لغة. فهي تتواصل فيما بينها وترسل إشارات لبعضها البعض في ظروف محددة وثابتة. اللغة فهي صناعة بشرية وهي تختلف من جماعة إلي أخري. فاللغة هي رموز صوتية تعبر عن أفعال أو أسماء أو تساؤلات, وهي ليست ثابتة, فكل يوم يضاف إليها جديد. والتعبير عن نفس المعني قد يأخذ أشكالا مختلفة. ومع اكتشاف اللغة حقق الجنس البشري نقلة نوعية, فقد أصبح يخطط للمستقبل ويتنبأ ويتوقع الأحداث, ويقيم التحالفات مع الآخرين. ولكن اللغة لا تقوم فقط بنقل الحقائق بل إنها كثيرا ما تستخدم أيضا للتضليل والخداع. فالإنسان ربما يكون الأقدر بين الكائنات علي الكذب والخداع ويتضمن ذلك خداع النفس أحيانا. والإنسان ليس مجرد حيوان ناطق, بل هو أيضا كائن فضولي محب للتعلم والتقليد وأحيانا المغامرة. فهو يحاول ابتكار أفكار جديدة كما أنه يقلد ما يظهر أمامه من أفكار نافعة. ولم تعد اللغة مجرد أداة للتواصل الاجتماعي بين الأفراد, بل أصبحت بالدرجة الأولي وسيلة لنقل الأفكار والقيم والمباديء من جيل لآخر. وبهذا بدأ ظهور مفهوم التراث الثقافي لكل جماعة حيث تتوارث تاريخها وقيمها وتقاليدها. وهكذا يؤكد علماء البيولوجيا المحدثين, أن الإنسان ليس مجرد بيولوجيا وجينات موروثة, بل هو أيضا حصيلة تراث ثقافي وقيمي متراكم. وجاء ظهور اللغة عند الإنسان ليساعد علي توارث هذا التراث الثقافي والقيمي لدي الجماعات من جيل لآخر. وينتقل هذا التراث من خلال التربية من الآباء والعائلة والمدرسة مع احترام ما استقر في مجتمعه من عادات وتقاليد. وإذا كانت الجينات تنقل الصفات الوراثية بين الأجيال, فإن اللغة تنقل المخزون المعرفي والقيمي من جيل لآخر. ومن هنا اقترح عالم البيولوجيا المعاصر رتشارد داوكنز اصطلاح الميمات كمقابل لاصطلاح الجينات, وحيث تقوم هذه الميمات بنقل التراث الثقافي من جيل لآخر. وهكذا فإن الإنسان المعاصر ليس وليد خصائصه الجينية الموروثة وحدها, بل هو أيضا يتأثر بالموروث الثقافي في القيم والأخلاق فضلا عن التراكم العلمي والمعرفي. وقد اكتشف الإنسان من خلال تطوره الطويل أنه لا يستطيع أن يعيش منعزلا عن الآخرين, وأنه في حاجة إلي العيش داخل مجتمع مناسب. ومع تراكم هذه الخبرات, أصبحت هذه الحقيقة جزءا من تراثه الثقافي يتوارثه جيل بعد آخر. ولكن شكل وحجم هذا المجتمع اللازم لاستمرار حياته وارتقائها, تغير مع تغير قدراته وإمكانياته, الأمر الذي يحتاج إلي إلقاء نظرة علي الاقتصاد وتغير ظروف المعيشة. لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي