من المظاهر التقليدية المصاحبة للثورات, أن تتحول الثورة إلي محور لتقسيم الشعب والقوي والتيارات السياسية بين تأييد ومعارضة, وذلك علي خلفية الاستفادة من الثورة أو التضرر بسببها. وتستمر الثورة كمحور للاستقطاب لحين انتهاء جميع مراحلها سواء بالنجاح أو بالفشل. لكن مصر دائما تقدم للعالم نموذجا خاصا بها; فقد تجاوز المصريون سريعا مرحلة الفرز حسب من مع ومن ضد الثورة. إلي الانقسام حول من مع الأخوان ومن ضدهم. تم ذلك عبر خطة ممنهجة تدرجت من تبريد لحماس قوي الثورة إلي تحييد لموقف الشعب منها ثم تزهيد للمصريين فيها. حتي تحولت الثورة في العقل الجمعي إلي لحظة استثنائية خلفت وراءها خيبة أمل. وتحولت النظرة إلي العهد السابق الذي ثار المصريون عليه, من احتقار له ولرجاله, إلي حسرة علي الماضي وغضب من الحاضر. في المشهد الراهن لم يعد تأييد الثورة أو التنصل من عهد مبارك معيارا للفرز السياسي أو احترام المجتمع, بل إن من وقفوا ضد الثورة ضمنا أو صراحة, عادوا إلي الساحة وكأن أيا منهم لم يكن قبل عامين ملفوظا منبوذا يتواري خجلا. حتي هذا الحد كان من الممكن استدراك الأمر واستعادة احترام الثورة واحتقار من قامت ضدهم, ذلك لو أن السلطة الحاكمة أدركت الفخ المزدوج الذي نصب لها وللثورة معا. ولو أصرت وتحركت عمليا نحو تصحيح الوضع وإحياء آمال المصريين في الثورة بتحقيق ولو بعض أهدافها. إن لم يكن بالقصاص للشهداء والمصابين ومن ظلموا طويلا, فعلي الأقل بالعيش الكريم والعدالة الاجتماعية. بيد أن عدم تحقق أي منهما, أفسح مجالا رحبا أمام عودة أولئك الملفوظين من أذناب ومنتفعي مبارك, لتنتهي فترة البيات الثوري ويخرجوا سريعا من جحورهم بكل وقاحة, دون حاجة إلي استرضاء المصريين أو التطلع إلي عفوهم. فقد أعفاهم أداء السلطة من الإقرار بالذنب وطلب المغفرة. صحيح أن عدم تحقق أي من مطالب الثورة حتي الآن ليس مسئولية السلطة الحاكمة وحدها; فهي ليست مطلقة اليد في أجهزة الدولة سواء البيروقراطية أو الأمنية أو الرقابية, ويدها مغلولة عن إزالة عوالق نظام مبارك في بعض المؤسسات خصوصا القضاء. لكنها تظل تتحمل النصيب الأكبر من مسئولية التقصير إن لم يكن في القصاص ففي تحسين أحوال المواطنين وتخفيف أعبائهم المعيشية. وكان الجزاء من جنس العمل, فالطابع غير التصادمي للإخوان والرغبة في تحقيق سيطرة آمنة وسلسة علي مفاتيح السياسة ودولاب الاقتصاد, أفضيا بسلطة الحكم إلي التهاون في حقوق الشهداء والتساهل مع مثيري الفتنة والاضطراب واللين في مواجهة الدولة العميقة. مما ساعد في نجاح خطة تفريغ الزخم الشعبي المساند للثورة والمعادي لرموز ومنتفعي نظام مبارك, وملء الساحة بدلا منه باحتقان مفتعل سرعان ما تجسد في تجاوزات متبادلة بين الإسلاميين والثوريين, لتكون النتيجة المنطقية كراهية كل للآخر وابتعاد المواطن العادي عنهما معا. الآن وصف فلول ليس اتهاما أو سبة, بل لم يعد متداولا أصلا. وأصبح مقياس الاحترام أو النزاهة هو ما إذا كان المرء مع الإخوان أو ضدهم. بل لم تعد المعركة فقط بين الاخوان والثوريين, وإنما حرب بين الإخوان والمصريين. كأن الإخوان أصبحت محظورة وطنيا وليس فقط قانونيا كما كانت في عهد مبارك. ولم يعد مقبولا من المراقب أن ينتقد الإخوان أو السلطة حين تخطئ ويؤيدها حين تصيب. فإما أن يكون معهم دائما أو ضدهم بالمطلق. إنها خطة الثورة المضادة لخلط الأوراق وتفكيك المعادلات لإعادة تمكين فلول مبارك من مفاصل الدولة. وهو ما يعني- حال نجاحها- القضاء علي الثورة فعليا بعد اغتيالها معنويا. لمزيد من مقالات سامح راشد