يعد القضاء من أهم الوظائف وأعلي المراتب في الإسلام, وله في الحضارة الإسلامية مكانة سامية, ونبه القرآن الكريم والسنة النبوية علي ضرورة تطبيق العدالة. لا فرق بين كبير أو صغير, وبين رئيس ومرءوس ومراقبة الله تعالي في كل الأفعال والأقوال, لأن الابتعاد عن الحق في إنزال الأحكام القضائية جريمة في حق المتخاصمين, وابتعاد عن نهج الله السوي, ولذلك حذر الإسلام كل من يتولي القضاء, أن يحيد عن الحق, أو يبتعد عن الصواب. وكان للنظام القضائي في الحضارة الإسلامية إسهامات ومكانة كبيرة في الدولة الإسلامية, ووضعت الأسس الكفيلة باستقلالية القضاء وحريته, ومن يقرأ تاريخ مؤسسة القضاء الإسلامية يجد أنه يراعي في اختيار القضاة الصفات التي تحقق العدالة والمساواة, من العلم, والتقوي, والعدل, والعفة واهتمت مؤسسة الحكم بالقضاء والقضاة, فشددت الرقابة, منعا للمحاباة, وتلافيا للظلم. وفي ظل الاتهامات المتبادلة بين القوي السياسية حول مؤسسة القضاء بمحاولة التغول علي استقلال المؤسسة القضائية, أو الخلط بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية, أكد علماء الدين أن الدولة الإسلامية اعتمدت مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث بما يحقق مبدأ التوازن في المجتمع, وكانت اشد ما تكون حرصا علي استقلال القضاء ونزاهته, وبلغ من حرص الدولة الإسلامية علي القضاء أن راتب القاضي كان أعلي راتب في الدولة, بل ان رسول الله صلي الله عليه وسلم اقر للقاضي ما لم تقره الدساتير والقوانين حتي يومنا هذا, حينما قال: من وليناه أمرا من أمورنا ولم تكن له دابة أعطيناه دابة, وإن لم يكن له بيت ملكناه بيتا, وإن لم يكن متزوجا زوجناه, ولم يشهد التاريخ علي دولة قبل الدولة الإسلامية أرست مبدأ الفصل في السلطات مثلما كانت عليه الحال في الدولة الإسلامية, حيث نري أن الخليفة الثاني والقاضي عمر بن الخطاب يرسي مبدأ استقلال القضاء, بتولية كل من عبد الله بن مسعود وشريح بن الحارث الكندي قضاء الكوفة دون أن يكون لهما الحق في الولاية عليها, وولي قضاء البصرة أبا مريم, وبذا يكون عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية في الإسلام, ولم يذكر التاريخ علي الإطلاق أن الخليفة قد تدخل في شئون القضاء أو غير حكما أو عزل قاضيا لأي سبب كان, فالقاضي ينصاع فقط لحكم الله فهو حكم الحق والعدل, ولا تأخذه في الله لومة لائم, ولا ينحاز لقريب أو صديق, ولا يظلم عدوه أو من يبغضه, فدستور الحكم عنده قوله تعالي: كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسكم أو الوالدين والأقربين.. والسلطة القضائية في الدولة الإسلامية كانت محوطة بالحصانة والمهابة, لأنه إذا لم تكن للسلطة القضائية مهابة لا تكون لأحكامها قيمة. يقول الدكتور رأفت عثمان عضو هيئة كبار علماء الأزهر وعميد كلية الشريعة والقانون. هناك سلطات ثلاث تقوم عليها كل دولة هي: السلطة التشريعية, والسلطة القضائية, والسلطة التنفيذية, وقد استقر الأمر علي استقلال كل سلطة من هذه السلطات عن السلطات الأخري, وهو ما يعبر عنه بالفصل بين السلطات. ومن الطبيعي أن تكون مهمة السلطة التشريعية هي إصدار القوانين, وتكون مهمة السلطة القضائية تطبيق هذه القوانين التي أصدرتها الهيئة التشريعية مجلس الشوري الأن. وعلي هذا من الخطأ أن تتدخل أي سلطة من هذه السلطات الثلاث في اختصاص أي سلطة أخري, كما يحدث في بعض المجتمعات التي يسود فيها الاستبداد فتري السلطة التنفيذية تغتال السلطة التشريعية وتفرض القوانين التي تهواها, بل أيضا تتغول علي السلطة القضائية لتفرض أحكاما لا يحددها القانون, وهذا بالطبع أمر يجب مقاومته في أي مجتمع. ويري الدكتور جعفر عبد السلام أستاذ القانون الدولي بجامعة الأزهر وعميد كلية الشريعة والقانون السابق أن تنظيم الدولة المعاصرة يقوم علي وجود ثلاث سلطات كل سلطة مستقلة عن الأخري علي أساس أن هذا يحقق مبدأ التوازن في المجتمع, وقد وصلت المجتمعات إلي هذا بعد عناء طويل من ترك السلطات كلها في يد واحدة, فهو أحد المبادئ الدستورية المستقرة في كل العالم. من هنا نقول إن السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين الأخريين التشريعية والتنفيذية, فكل الدساتير كفلت هذا الحق للسلطة القضائية بالذات, فالدستور الأخير كرر ما جاء في الدساتير الأخري من أن القضاة مستقلون ولا سلطان لأحد عليهم غير القانون, وأنهم يقومون بأداء وظائفهم في الفصل بين الخصوم في استقلال كامل ويمتنع التدخل في أعمال القضاء, هذا الاستقلال يتبدي في مواجهة السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والإعلام, وقد كفل الدستور والقوانين هذا الاستقلال, وجعل التدخل في شئون القضاء جريمة يعاقب عليها القانون, والشريعة الإسلامية لا تخرج عن هذه المبادئ, ولعل رسالة القضاء تؤخذ من رسالة القاضي عمر بن الخطاب لأبي موسي الأشعري, وهي رسالة عظيمة تحدث فيها عن مقام القضاء ومساواة الناس جميعا أمامه, أذكر في ذلك قوله آس بين الناس في مجلسك ووجهك حتي لا ييأس ضعيف من عدلك, ولا يطمع قوي في حيفك. وتطرق د. حامد أبو طالب عضو مجمع البحوث الإسلامية إلي بعض التجاوزات التي تقع في السلطة القضائية كتعيين غير المستحقين للتعيين بالهيئة من الحاصلين علي درجات دنيا, وترك المتفوقين مما يسبب جرحا عميقا في نفوس المتفوقين ويشعرون بالظلم البين الذي يقع من السلطة القضائية, وهي السلطة المنوط بها إقامة العدل وإنصاف المظلومين, ومن ثم فلا يقبل أي ظلم يقع من هذه الهيئة ومع هذا فلا ينبغي لأي جهة كائنة من كانت أن تتدخل في شئون العدالة, ذلك أن الدستور كفل استقلال القضاء, ونص علي ذلك صراحة, فهم مستقلون وغير قابلين للعزل, ولذلك لا يقبل من السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية التدخل في القضاء, وإمعانا في حماية القضاة وحماية استقلالهم جعل القانون التدخل لدي أي قاض بتوصية أو طلب أو رجاء جريمة يعاقب عليها القانون, ومن هنا فإنني أناشد السلطتين التنفيذية والتشريعية عدم التدخل في القضاء, ومن ناحية أخري أهيب بالمخلصين من القضاة أن يتصدوا للأخطاء التي تقع من بعضهم, وبحسب تخصصي فإنني أعرف تماما أن السلطة القضائية تطهر نفسها أولا بأول, ولا يوجد في أي هيئة أخري آلية لمحاسبة أعضائها كما هي الحال في السلطة القضائية, ومع هذا فنحن نرجو القضاء علي كل أسباب الظلم والتفرقة بين أبناء مصر, فلا يعقل أن يعين ابن المستشار بتقدير جيد ويترك غيره من أبناء الشعب وقد حصل علي تقدير امتياز. ويري د. محمد محيي الدين سليم أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق جامعة المنوفية أن القضاء في الإسلام كان مستقلا عن الحاكم, وفي صدر الدولة الإسلامية أيام رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يكن هناك سلطات ثلاث, لأن الرسول صلي الله عليه وسلم كان هو المشرع والقاضي ورئيس السلطة التنفيذية, وبعد عصر رسول الله صلي الله عليه وسلم بدأنا نسمع عن السلطة القضائية والسلطة التنفيذية ممثلة في الخليفة, أما التشريع فكان كما هو مأخوذا من الكتاب والسنة بالإضافة إلي الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص.. السلطة القضائية كانت محوطة بنوع من الحصانة والمهابة, لأنه إذا لم تكن للسلطة القضائية مهابة لا تكون لأحكامها قيمة.. إحاطة القاضي بما يضمن استقلاله ورد في حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم, قال: من وليناه أمرا من أمورنا ولم تكن له دابة أعطيناه دابة, وإن لم يكن له بيت ملكناه بيتا, وإن لم يكن متزوجا زوجناه ولم يكن ولي الأمر في أي وقت من أوقات الدولة الإسلامية يتدخل في عمل القضاء اللهم إلا في بعض المظاهر التي كانت تمثل سقطات في الدولة نراها في حكم الأمويين وفي عهد بعض الخلفاء العباسيين عدا ذلك فالقضاء سلطة مستقلة, ويجب توافر شروط معينة حتي يتبوأ القاضي منصبه كالعدالة, ويقصد بالعدالة الاستقامة الشخصية, فلا يكون ممن يجترئ عليهم العامة أو مشهورا بسوء السلوك, حتي إن الماوردي في الأحكام السلطانية اشترط علي القاضي ألا يجالس العوام, لأن ذلك ينقص من هيبته إضافة إلي ذلك كانوا يشترطون في القاضي بعض الشروط الخاصة بالسلوك الشخصي كعدم جواز تبوله في الطريق, لأن ذلك يقلل من مروءته, فقد اشترطوا في القاضي ما لم يشترط في المحتسب ولا صاحب ديوان المظالم, برغم أن الحسبة وديوان المظالم كانا من المعاونين للقضاء, إلا أن القاضي هو صاحب القرار المباشر والمؤثر, فهو يصدر حكما يجب تنفيذه من خلال السلطة العامة.