فى يوم الإثنين 22/10/2007م بينما كنت معتقلًا فى سجن مزرعة طره قرأت حوارا فى صحيفة «البديل» مع المستشار محمد حامد الجمل، رئيس المحكمة الإدارية العليا «مجلس الدولة» سابقا يتضمن شهادة فى غاية الخطورة، فاحتفظت بصفحة الحوار حتى أكتب تعليقا عليه فور خروجى من المعتقل، إلا أن مشاغل الحياة استغرقتنى ما يزيد على ثمانية أشهر قبل أن أنتزع نفسى للتعليق على الحوار الخطير، ولنبدأ بنص الحوار: يسأل الصحفى قائلًا: دعنا نبدأ من قضية المحاكمات العسكرية، خاصة أنك أصدرت حكمًا حينما كنت رئيسًا لمجلس الدولة عام 1993 بإحالة بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين إلى القضاء العسكرى وهو ما يحدث الآن.. كيف ترى محاكمة المدنيين عسكريًّا؟ ويجيب السيد المستشار: منح السلطة التنفيذية صلاحيات إحالة المدنيين للقضاء العسكرى محرم وفقًا للمواثيق الدولية والأديان السماوية، وهو قضاء استثنائى ويتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، وحينما أصدرت الحكم الشهير بإحالة بعض قيادات الإخوان إلى القضاء العسكرى كنت ملتزمًا بالقانون والأحكام السابقة المستقر عليها فى المحكمة الإدارية العليا، وليس معنى ذلك أننى أؤيد إحالة المدنيين إلى المحاكمات العسكرية. س: قبل النطق بالحكم وأثناء المداولة ماذا كان رأيك؟ ج: غصبًا علىّ «لازم» أفعل ذلك. س: ولماذا غصبًا عليك؟ ج: لأنى قاض ولا أستطيع تغيير الأحكام القضائية المستقرة بمزاجى كما فعل المستشار طارق البشرى وقام بإلغاء إحالتهم حينما كان رئيسًا لمحكمة القضاء الإدارى؛ لأنه يحكم بميوله السياسية. بينما أنا التزمت بالأحكام السابقة التى استقرت عليها المحكمة الإدارية العليا، ومن حقى الآن الاعتراض على الحكم الذى أصدرته لأنى تركت المنصة، ومن حقى أقول اللى أنا عايزه. س: حينما أصدرت الحكم؟ ج: «مقاطعًا» أنا لم أصدر الحكم وحدى وإنما المحكمة بكامل أعضائها وأنا التزمت برأى الأغلبية. س: هل مورست عليك ضغوط من قبل الدولة قبل إصدار الحكم بإحالة المدنيين للمحاكمات العسكرية؟ ج: أعضاء الدائرة الذين وقعوا على الحكم معى منتدبون لدى الوزارات والهيئات الحكومية، ويعلمون جيدًا أن الحكم لو صدر على عكس ما تريد الدولة سيتم إلغاء انتدابهم، وبالتالى ضياع الأموال التى يحصلون عليها من الانتداب، الأمر الذى يجعلنى ألتزم برأى الأغلبية رغم رفضى الداخلى للحكم، فالديمقراطية والالتزام برأى الأغلبية يتطلب أن تكون هذه الأغلبية مستقلة ومحايدة وليس لها مصلحة سوى مصلحة العدالة. س: أنا كمواطن كيف أطمئن للقاضى الذى يحكم فى قضيتى والسلطة التنفيذية تتدخل فى عمله؟ ج: لذلك كنت وأنا رئيس لمجلس الدولة أطالب بالاستقلال المالى والإدارى والتنظيمى للسلطة القضائية، وهناك الكثير من الضغوط التى تمارس على السلطة القضائية سواء بطريقة مباشرة من خلال التدخل الفج فى المنازعات والقضايا أو بطريق غير مباشر من خلال تجنيد عدد من القضاة لبث الفرقة والفتنة بين القضاة ولإحداث انشقاق فى صفوفهم، وهذا الأسلوب متبع من العهد الناصرى والنظام الحالى ما زال يطبق هذا المبدأ «فرّق تسد» وفى مجلس الدولة أثناء رئاستى تم تجنيد عدد من المستشارين لصالح النظام وكانوا أعضاء بالمجلس الخاص. س: ولكن أعضاء المجلس الخاص يتم اختيارهم بالأقدمية؟ ج: نعم ولكن النظام يجند عددًا منهم ويوحى لهم، كل على حدة، بأنهم إذا فعلوا كذا سنعينك رئيسًا لمجلس الدولة، وحدث معى بالفعل حيث دعا عدد من التابعين للنظام إلى عقد جمعية عمومية لسحب الثقة منى، لكنهم فشلوا فى ذلك بسبب رفض أغلبية المستشارين سحب الثقة. س: تحدثت عن تعرضك لضغوط أثناء فترة رئاستك لمجلس الدولة، ما شكل هذه الضغوط؟ ج: كانت ضغوطًا من أعضاء بالمجلس لهم صلة وثيقة بالنظام ووزارة العدل. س: هل كان يتصل بك أحد من النظام ويطلب منك إصدار حكم فى قضية ما فى اتجاه معين؟ ج: حينما يريد النظام الضغط على رئيس هيئة قضائية لا يكون بهذا الشكل الفج كأن يقول له «قضية عبد السلام عايزين الحكم كذا»، ولكن يكون الضغط بمنع الفلوس التى نريدها للمجلس أو منع درجات قضائية يحتاجها العمل أو عدم تنفيذ القرارات. س: وهل حدث ذلك معك؟ ج: طبعًا. س: فى أى قضية كانت؟ ج: لن أستطيع القول الآن، ولدى مذكراتى بها كل شىء وبها كل الضغوط التى تعرضت لها ولكن سأعلنها فى الوقت المناسب، ولا أخفى عليك أنى خائف من إعلانها الآن. س: هل المستشار محمد حامد الجمل راض عن الأحكام التى أصدرها؟ ج: أنا مرتاح لهذه الأحكام من الناحية المهنية والقانونية، ولكن هذا لا يعنى أننى راض عن القوانين وأحكام الدستور. س: هل هناك أحكام أصدرتها وندمت عليها؟ ج: لست نادمًا على الأحكام فى حد ذاتها، وإنما ما شعرت به أن القوانين والدستور مرفوضة ولكننى ملزم بتطبيقها، وأنا أتحدث الآن بعيدًا عن منصبى القضائى، كما أن الأحكام التى أصدرتها لم أبخل فى البحث وبذل الجهد فيها لتحقيق العدالة. س: القوانين السيئة جعلت المستشار محمد حامد الجمل يصدر حكمًا على غير رغبته، أليس كذلك؟ ج: لم أكن راضيًا عن بعض الأحكام التى أصدرتها ولكنى ملتزم بتطبيق القانون، ومنها حكم إحالة الإخوان للمحاكمات العسكرية. س: ما تعليقك على الأحكام التى يصدرها مجلس الدولة ولا يتم تنفيذها؟ وما هو شعورك؟ ج: عدم تنفيذ الأحكام يؤكد أننا فى دولة لا تحترم القانون ولا الدستور، فرغم أن الدستور أكد سيادة القانون فإن أحكام القضاء تهدر ولا تنفذ، وأنا حاليًّا أشعر بالندم على دخولى كلية الحقوق لأنى أضعت حياتى فى مهنة غير مرغوب فيها من النظام الحاكم، فهو لا يحترم القانون ولا يعترف به إلا لمصلحته، ويضع القوانين التى تحقق رغباته، ونتيجة لذلك لا ينفذ الأحكام إلا التى تصدر لصالحه. س: تتحدث عن عدم جدوى الدستور والقانون رغم أن الدستور به نصوص تؤكد سيادة القانون.. أعتقد أن المشكلة فى التطبيق؟ ج: لا بد من وجود آليات لتطبيق نصوص الدستور وإلا فستظل حبرًا على ورق، فلا بد من إحداث توازن بين السلطات الثلاث، وأن تكون هناك سلطة قضائية مستقلة وسيادة قانون فعلية وانتخابات تشريعية حرة ونزيهة ونواب مستقلون يعبرون عن إرادة الشعب، وبدون هذه الآليات فلا فائدة من القانون أو الدستور ولن يتم تطبيقه. - مر أكثر من ثمانية أشهر على هذا الحديث ولم يعلق عليه أحد، رغم خطورته ومما يضاعف من هذه الخطورة أنه صادر عن رئيس إحدى أكبر ثلاث محاكم فى مصر، وهى التى تتولى الحكم فى النزاع بين الحكومة وأفراد الشعب. ولو تأملنا هذا الحديث لخلصنا منه إلى الحقائق الآتية: 1- السلطة التنفيذية لها صلاحيات مهيمنة على السلطة القضائية وتستغلها فى إجبار بعض القضاة على إصدار أحكام جائرة تحقق مصلحتها. 2- إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية أمر محرم وفقًا للمواثيق الدولية والأديان السماوية ويتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان لأنه قضاء استثنائى. 3- هناك قوانين معمول بها تتعارض مع المواثيق الدولية ومع الأديان السماوية منها الشريعة الإسلامية وكذلك مع مبادئ حقوق الإنسان، ويلزم القضاة بتطبيقها رغم إنكار ضمائرهم لهذه الأحكام. 4- السلطة التنفيذية تُخضع بعض القضاة بأسلوب الترغيب والغواية عن طريق انتدابهم للوزارات والهيئات الحكومية مقابل مبالغ مالية ضخمة، وبأسلوب الترهيب عن طريق تهديدهم بحرمانهم من هذه المبالغ بإلغاء الانتداب إذا أصدروا أحكامًا على غير هواها. 5- إن الاستقلال المالى والإدارى والتنظيمى الكامل للسلطة القضائية غير موجود ولا تزال الحكومة ترفض تحقيقه، رغم أن شرفاء القضاة يكافحون من أجل ذلك منذ عدة عقود. 6- السلطة التنفيذية تجند عددًا من القضاة التابعين لها لإحداث الفرقة والفتنة والشقاق فى صفوف القضاة، وتهديد رؤسائهم المستقلين بسحب الثقة منهم. 7- من وسائل الضغط على المحاكم أيضًا -ولا سيما المحكمة الإدارية- منع الأموال التى تحتاجها المحاكم أو منع الدرجات القضائية التى تحتاجها، وكذلك عدم تنفيذ أحكامها. 8- المستشار محمد حامد الجمل رئيس مجلس الدولة الأسبق يخشى من بطش الحكومة به إن قام بنشر مذكراته، فما بالنا بأفراد الشعب العاديين، وهو نادم على دخوله كلية الحقوق لأن القضاء النزيه غير مرغوب فيه من الحكومة. 9- من نصوص القانون بل الدستور ما يقنن الظلم، وهذا أعظم ألوان الظلم لأنه يسبغ عليه صفات القانونية والدستورية والاستمرار والاطراد والعموم بمعنى أنه يطبق على كل أفراد الشعب. 10- إننا نعيش فى دولة لا تحترم القانون والدستور- رغم ذلك- فهى لا تطبق إلا ما يتفق مع مصلحة الحكومة وضد مصلحة الشعب، أما الأحكام التى تأتى على خلاف ما تريد فتضرب بها عرض الحائط. 11- لن يتم إصلاح إلا بتحقيق الفصل المتوازن بين السلطات، وأن تكون هناك سلطة قضائية مستقلة، وسيادة قانون حقيقية، وسلطة تشريعية منتخبة انتخابًا حرًّا نزيهًا حتى يكون النواب مستقلين يعبرون عن ضمير الشعب وإرادته. وإذا كان لنا من تعليق فإنما نتوجه به إلى القضاة الذين أناط الله تعالى بهم القيام بالقسط والحكم بالعدل بين الناس وهو الغاية التى أرسل من أجلها الرسل وأنزل الكتب «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط..» «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون». لذلك فقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم القضاة من الجور وحضهم على العدل فقال: «من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار».. وحذر الأشخاص الذين يضعفون من الصدع بالحق والحكم بالعدل ويميلون مع الهوى ويؤثرون مصالحهم الشخصية من تولى القضاء أصلًا، فقال: «من ولى القضاء فقد ذُبح بغير سكين» أى عرض نفسه للهلاك. بل ضرب الله مثلًا بنبيه داود إذ حذره من اتباع الهوى فقال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}. ويقول النبى صلى الله عليه وسلم «القضاة ثلاثة: واحد فى الجنة واثنان فى النار، فأما الذى فى الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فى الحكم فهو فى النار ورجل قضى للناس على جهل فهو فى النار». وقال العلماء: إن الهدية إلى القاضى من أحد المتخاصمين تعتبر من الرشوة، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول» أى من وليناه وظيفة وجعلنا له أجرًا مقابلها فما أخذه بعد ذلك بسببها فهو رشوة، وقال عليه الصلاة والسلام: «لعنة الله على الراشى والمرتشى فى الحكم» ويقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}. وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ويل لديان من فى الأرض من ديان من فى السماء يوم يلقونه، إلا من أمر بالعدل، وقضى بالحق، ولم يقض على هوى ولا على قرابة، ولا على رغب ولا رهب، وجعل كتاب الله مرآة بين عينيه. فإذا استيقن القضاة أن تحويل المدنيين إلى المحاكمات العسكرية محرم، تحرمه المواثيق الدولية ومبادئ حقوق الإنسان، بالإضافة إلى الأديان السماوية، أى إن الله تعالى قد حرمه، فكيف يحكمون به حتى إن أباحه القانون الوضعى، ولا سيما وهم أعلم الناس بطريق سن القوانين عبر مجلس تشريعى جاء معظمه بانتخابات مزورة، ولا يجرؤ أحد من المنتمين للحزب الحاكم على أن يرفض له طلبًا ولو تعارض مع شرع الله وحقوق الإنسان والمواثيق الدولية، ثم إذا كان القانون يقضى بما حرمه الشرع هل يكون دستوريًّا؟ والدستور ينص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع. وهل يليق بمن جلس على منصة القضاء والحكم، وتطلعت إليه أفئدة أفراد الشعب كله، ورنت إليه أبصارهم، وامتلأت قلوبهم بالحب والتوقير له، وأملت فيه الخير ومنه العدل والإنصاف أن يضحى بهذا كله مقابل انتداب هنا أو هناك يدر عليه مالًا مهما عظم فهو حقير لأنه حرام فهو رشوة مستترة. وهل أدرك هؤلاء القضاة مغبة حكمهم بإحالة المدنيين إلى القضاء العسكرى وهم يعلمون أنه ليس قضاء، فهو جزء من السلطة التنفيذية يخضع لها ويأتمر بأمرها، وبالتالى تكون السلطة التنفيذية هى الخصم والحكم، وهل يعلمون كم أصدر من أحكام بالإعدام على مظلومين أو على الأقل لا يستحقون الإعدام، فمن الذى يتحمل وزر قتلهم؟ إن الذين حكموا بتحويلهم إلى القضاء العسكرى والسلطة التنفيذية التى حولتهم والقضاة العسكريون الذين أصدروا الأحكام الظالمة كلهم يتحملون هذا الوزر. ولكن القضاة المدنيين الذين حكموا بجواز التحويل إلى المحاكم العسكرية يتحملون الوزر الدائم لأن حكمهم كان الأساس وسيظل المستند الذى تعتمد عليه السلطة التنفيذية لتحويل المدنيين إلى القضاء العسكرى، وستظل لعنة هذا الحكم تطاردهم ما بقى الحكم منفذًا ولو انتقل القضاة إلى الدار الآخرة، وسيتعلق كل من قُتل مظلومًا برقابهم يوم القيامة، إذا كان ذلك نتيجة لقضائهم. ألم يقل الله عز وجل: {ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق} وقال: {أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا}؟ ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» وأيضًا ألم يقل الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا معتمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا}، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: «من أعان على قتل رجل مسلم، ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا على وجهه: آيس من رحمة الله». وجاء فى الحديث أيضًا: «ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأن أول من سن القتل..». ثم ألم يكن حكمهم هذا سببًا فى سجن كثير من الناس المصلحين -الذين ما كانوا يستحقون إلا التقدير- سنوات طويلة ومصادرة أموال، وحرمان أسر من ذويهم وإحزان قلوبهم وتضعضع صحتهم، وتعطل مصالحهم، ألم يفكروا فى عدد السنوات التى تم تغييب هؤلاء المصلحين لهم فى غياهب السجون، وهل إذا قضى الله بتغييبهم مثلها فى نار جهنم هل يقوون على ذلك؟! أم لم يرد هذا على تفكيرهم؟ فغشيتهم الغفلة ونسوا الله فأنساهم أنفسهم؟ فهل تستحق عشرات أو مئات أو حتى ملايين الجنيهات التى جنوها من الانتدابات هذه الخسائر؟! وهل تستحق أيضًا انهيار قيمة العدل فى الأرض، وفقدان الثقة فى القضاء، ويأس الناس من الحق، وضياع الولاء للوطن؟!. كما أن القضاء ليس فيه ديمقراطية بمعنى أن على القاضى أن يتمسك بالحكم الذى يقتنع به عقله ويرتضيه ضميره وليس له أن يتنازل عنه كى يوافق الأغلبية، لا سيما أنه يعلم أن هذه الأغلبية مدفوعة بمصالحها فى الانتداب، ولكن عليه أن يثبت رأيه فى المداولة حتى إن أصدرت الأغلبية حكمها مخالفًا للحق الذى يعتنقه. ألم يقرأ القضاة الذين يحكمون بما يخالف ضمائرهم ويخالف حكم الله سيرة الأئمة الصالحين الذين رفضوا تولى القضاء حينما اشتموا شبهة عدم قدرتهم على إنفاذ الحق والعدل كاملَين بين الناس وبعضهم تعرض للفتنة نتيجة رفضه تولى المنصب ومنهم الإمام أبو حنيفة النعمان، وحياة بن شريح وغيرهما؟ بل إن من القضاة المعاصرين نماذج مضيئة رفضت الانتداب من أصله سواء كان للوزارات والهيئات الحكومية أو لمحكمة القيم أو الأحزاب؛ لأنهم يعتبرون أنهما ليستا محكمتين، وضحوا بالمنافع الكبيرة التى كانت من الممكن أن تعود عليهم لو قبلوا ذلك، ولكنهم آثروا رضاء الله على رضاء الحكومة، واحتفظوا بشرفهم وكرامتهم، متمثلين قول الله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدرًا}، بل لا يزالون يجاهدون من أجل إصلاح القضاء واستقلاله، ولا داعى لذكر الأسماء. وفى مقابل ما تفعله الحكومة من إفساد للقضاء بكل الأساليب غير الشرعية وغير الأخلاقية أقدم رسالة الحاكم العادل عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى قاضيه على العراق، أنقل منها قوله رضى الله عنه: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم، إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس «أى سوِّ» بين الناس فى وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف فى حيفك أى ميلك معه لشرفه» ولا ييئس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادى فى الباطل.. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا فى حد أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظِنينًا «متهما» فى ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والإيمان، وإياك والقلق والضجر والتأذى بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق فى مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس «أظهر لهم فى خلقه» خلاف نيته بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله «أى فضحه» فما ظنك بثواب الله عز وجل فى عاجل رزقه وخزائن رحمته؟ هذا هو الحق، وهذا هو العدل، وهذا هو الإسلام، الذى سنظل نؤمن به ونقرر أنه هو الحل ولو كره الكارهون {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا}. ----------------------- عضو مكتب الإرشاد