مع إدارة أوباما تنحط السياسة الأمريكية إلي مستويات من التخلف تقارب فيه مستوي أداء مثيلاتها في العالم الثالث, ولعل من أهم مؤشرات هذا الانحدار, خروج هذه السياسة عن السياقات العلمية التي تميز سياسات الدول المتقدمة من سواها كالقدرة علي تحليل هذه السياسات وبناء تقديرات مواقف خاصة بها ومعاينة خياراتها وممكناتها, أي تحليل العملية السياسية التي تؤطر هذه العناصر بداخلها, حيث بات من الصعب تقدير موقف حول استجابة الإدارة الأمريكيه تجاه أي من النزاعات الحاصلة علي مستوي العالم في ظل فوضي صراعات الرؤي التي تزخر بها مؤسسات الحكم في واشنطن. ومستوي التخلف هذا لا يتأتي, فقط, من افتقاد القدرة علي تحليل هذه السياسة, بل لعله صار يطال عملية صناعة السياسة ذاتها في الإدارة الأمريكية نفسها, التي باتت, وخاصة علي مستوي السياسة الخارجية, وهي في الحالة الأمريكية جزء من السياسة الداخلية بحكم انتشار المصالح الأمريكية علي رقعة العالم وتشابك الداخلي بالخارجي في ذلك, باتت لا تختلف عن عمليات صنع السياسة في البلدان المتخلفة ذات الطابع التسلطي الأوليغارشي, وما يؤكد هذه الخلاصة الصراع الجاري في أروقة الإدارة الأمريكية ومؤسسات الحكم الأمريكي عموما حول سوريا وعدم قدرتها علي التأثير في قرار الرئيس الأمريكي أو زحزحتها لمواقفه. صحيح أن الأزمة السورية كشفت هذا العطل والخلل السياسي الأمريكي ووضحته بشكل كبير, حتي ليمكن القول أن الأزمة السورية أعادت تعريف الدور الأمريكي علي المستوي العالمي, لكن هذا التراجع في الحضور كان يحاول أن يعبر عن نفسه منذ مدة, لدرجة أنه في ليبيا كان دورا خافتا ومختبئا خلف الزخم الأوروبي. وفي الواقع وحتي لا نظلم إدارة الرئيس أوباما فإن الوقائع تشير إلي أن هذه الحالة هي نتيجة انعكاس مزاج أمريكي بات يميل بقوة إلي عدم زج أمريكا في أزمات ومشاكل العالم, وربما هذا ما يقوي موقف اوباما, أو حتي يمنعه من اتخاذ قرارات مهمة بهذا الخصوص. من الواضح تماما أن صناع سياسات الدول المنافسة لأمريكا أدركوا هذا العطل وباتوا يشتغلون علي أساسه, وما يدلل علي ذلك هذا التواتر المتناسق لتفجير الأزمات في أكثر من مكان في العالم دفعة واحدة, فيما يبدو أنه محاولة لإغراق السياسة الأمريكية المترددة بمزيد من الأزمات.لكن الاشكالية تظل في نمط الاستجابة الأمريكي المتردد, فهو لا يعدو سوي استثمار في الخراب واستثمار في المتاعب الأمريكية القادمة, ذلك أن العجز في القراءة الاستراتيجية للمتغيرات والتطورات الحاصلة لن يتأخر كثيرا قبل أن يظهر علي شكل أزمات تواجهها الولاياتالمتحدةالأمريكية فيما يخص مصالحها المنتشرة في العالم. المشكلة أن هذه السياسة الأمريكية التي تؤجل حل الأزمات, فيما تعمل القوي المنافسة لأمريكا علي تزخيم هذه المشاكل, وتفعيل دينامياتها لتتفاقم في وجه أمريكا وتضعفها مع الزمن, وهذه لن تتم إلا من خلال التضحية بساحات معينة تشكل خطوط تماس الصراع بين أمريكا وهذه القوي, خاصة وأن هذه القوي غير قادرة علي ضرب المصالح الأمريكية بشكل مباشر فتعمد لتعويض ذلك علي خلق أزمات علي حافة هذه المصالح في محاولة لدفع واشنطن إلي الرضوخ لمطالب هذه القوي لتغيير تراتبية سلم القوي في صناعة السياسات الدولية, باعتبار أن أمريكا هي الفاعل الأكبر والمؤثر في هيكلية النظام العالمي الحالي. سوريا أرض كاشفة لهذه السياسات, فهي بالمعني المباشر لمفهوم المصالح الأمريكية تقع خارج هذا الإطار, وهي بالمعيار الآخر لروسيا وإيران ساحة حافة لتلك المصالح, ووقوع سوريا بين حدي الإدراك الأمريكي الضيق والنهم الروسي الإيراني, حولها إلي أرض خراب معمم, وينذر بتحويلها إلي ما هو أسوأ من ذلك بكثير, السياسات الأمريكية الضعيفة اكتفت بردة الفعل تجاه الحدث السوري مثل تصنيف جبهة النصرة في قائمة المنظمات الإرهابية, أو في أحسن الأحوال إقامة مناطق عازلة في الجنوب وحصر الهدف الإستراتيجي من ورائها بحماية إسرائيل والمملكة الأردنية, وحصر الخراب والآثار السلبية للحدث في أماكن خارج الحيز القريب من حدود إسرائيل والأردن, أو البحث عن الجهات غير المتطرفة في كتائب المعارضة المسلحة من أجل تزويدها بأسلحة غير فتاكة!, وفي ذلك سذاجة غير مسبوقة, فكما أنه يصعب حصر الخراب في مناطق ما بعد الجنوب السوري بالنظر للتداخل الجغرافي والديمجرافي بحيث يبدو الفصل عملية شبه مستحيلة ولوجود عملية تغذية لا يمكن قطعها, كذلك لا يمكن فصل التشابك المعقد بين كتائب الجيش الحر بين إسلامييه ومعتدليه وحتي متطرفيه في ميدان المعركة لوجود حالة اعتمادية متكاملة, ومن شأن محاولة تفكيكها تدمير الثورة برمتها. في مقابل ذلك, كل الخيارات الأمريكية التي يجري ترويجها في الإعلام وفي بعض مؤسسات الحكم الأمريكية تجاه سوريا, من خطط عسكرية وسواها, لا تعدو مجرد بيع وقت للحلفاء وبيع أوهام للثوار السوريين, ما دام تفعيل كل هذه الخيارات مرهونا بالعواقب التي قد تطرأ, فالمقصود يصبح إبراز هذه العوائق وتحويلها إلي حائط سد بوجه منتقدي السياسات الأمريكية, إذ من السهل دائما العثور علي العوائق وتصنيعها إن لزم الأمر. لمزيد من مقالات غازى دحمان