حين يتعايش الناس مع اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم في وطن واحد, فلا بد لهم من منهج يجمعهم, وينظم الحياة المشتركة بينهم, ويمنع تحول الخلافات إلي صراع,فالعلاقة بين ابناء الوطن الواحد من المفترض أن تكون علاقة توافق وتكامل وليست علاقة تناحر وتنافر, وذلك حين تكون الحدود واضحة في المساحة المشتركة والمساحات الخاصة, ويرضي كل من الطرفين بمساحته المحددة. ودعا علماء الدين الي ضرورة تطبيق فقه التعايش حتي يتسني للجميع ان يهنأ ويعيش في ظلال دولة معاصرة تحفظ حقوق الإنسان وتحمي حرياته, وتطلق نشاطه,وتعلي القيم الإنسانية الفاضلة, قيم الحق والعدالة والأخلاق,وتكون بمثابة حائط الصد ضد دعاوي الفتنة سواء كانت طائفية اوسياسية,حتي لا تظل الأمور خاضعة للصراعات والاستقطابات السياسية المختلفة لابناء الوطن الواحد,ولنا في رسول الإنسانية سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم,القدوة والمثل في التعايش والمحبةبما يصون كرامة الإنسان وعزته وحريته,وحذر العلماء من خطر استمرار حالة الانشقاق وزيادة هوة الخلافات بين التيارات المختلفة,داعين- في الوقت نفسه-الجميع الي توحيد الجهود والصفوف,حتي تعبر مصر ازمتها,ويتحقق الرخاء للجميع. ويقول الدكتور عبد الفتاح إدريس, استاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر, إن التعايش بين جميع طوائف المجتمع من مسلمين ومسيحيين وغيرهم ليس امرا بدعيا,وانما هو اساس اول دولة اسلامية انشأها الرسول صلي الله عليه وسلم, مشيرا الي ان التعايش بين المسلمين في مصر,امر لايستعصي علي الوجود إذا خلصت النيات,وبعدت عنها دعاوي الفتنة التي تريد ان تنفث سمومها بين اوصال افراد هذا المجتمع,بغية الفرقة,وجعل مصر علي شاكلة بلاد مجاورة مزقتها الفتن وسالت فيها الدماء وأزهقت فيه الارواح وانتهكت فيها الاعراض,ولم تقم لها قائمة. مصر عصية علي دعاوي الفتن وأشار الي ان التعايش بين ابناء الوطن الواحد في مصر,ترنو اليه غالبية افراد هذا الشعب,حيث تربطهم صلات القرب والجوار والشراكة والمودة واخوة الوطن والمصير,كما تربطهم اواصر المحبة والعلاقات الانسانية المتعددة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ, و لها قصص وحكايات تمتلئ بها صدور وقلوب أهل هذا المجتمع فخرا واعتزازا,مؤكدا ان التعايش بين ابناء المجتمع الواحد في مصر المحروسة,امر مفروض علي جميع الشعب بإرادته الحرة,موضحا انه علي الرغم من دعاوي الفتنة والفرقة- التي تظهر من حين الي آخر- فإن افراد هذا الشعب من المسلمين والمسيحيين,يعودون في نهاية الامر الي بعضهم البعض,بنفوس راضية وقلوب صافية,وهو امر جبلي مطبوعة عليه نفوسهم,ولذلك فإنه لايتصور في القريب او البعيد ان يحدث انشقاق وتناحر بين نسيج عنصري الشعب المصري,مهما تكن دعاوي الفتن,فمصر بمسلميها ومسيحييها في امن وامان الي ان تقوم الساعة. وثيقة المدينة وفي سياق متصل أوضح الدكتور عبد الغفار هلال الاستاذ بجامعة الازهر, انه من المعلوم ان الانسان في المجتمع بحاجة ماسة الي غيره,ايا كان جنسه اولونه او معتقده اوفكره اوديانته,ولهذا فان الحضارات التي قامت,نهضت علي اكتاف الجميع بغض النظر عن الوانهم ومعتقداتهم,وأصدق مثال علي ذلك هو ما فعله رسول الله صلي الله عليه وسلم,حين هاجر الي المدينةالمنورة,وأسس اول دولة مدنية عرفتها الانسانية جمعاء, لقد كان الوضع سيئا في المدينة قبل الهجرة,قبائل متناحرة خاصة قبيلتي الاوس والخزرج- كاد يفني بعضها بعضا,فلما جاء الرسول صلي الله عليه وسلم الي المدينة مهاجرا,كان فيه مسلمون ومشركون ويهود ومسيحيون ومنافقون,ومع هذا فان النبي صلي الله عليه وسلم, الملهم من قبل ربه,استطاع ان ينشئ ويؤسس من هذا الخليط البشري المختلف في الافكار والمعتقد والدين,دولة قوية بها الفة ومودة وتعاون وتعايش لم تعرف التاريخ الانساني له مثيلا من قبل. وأكد ان وثيقة المدينةالمنورة التي وضع بنودها اطهر من مشي علي الارض سيد الاولين والآخرين,سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم,أسست لمعني المواطنة الحقيقية,ونظمت الحياة بأنماطها المختلفة في تناغم فريد عكس المعني الحقيقي للتعايش والتعاون,وسبقت كل الدساتير والتشريعات في المحافظة علي حقوق الانسان,و تنظيم العلاقة مع الآخر,ولهذا كان التعايش والتعاون بين تلك الأنماط المختلفة من البشر في المدينة,يدافعون عنها وينتصرون لها,ويمنعون من بغي عليها,ويرفعون الظلم عن المظلومين بها,مشيرا الي انه اذا اردنا ان ننهض بوطننا مصر فعلينا تفويت الفرصة علي من يريدون لها الخراب والدمار من خلال دعاوي الفتنة والفرقة بين ابناء الوطن من مسلمين ومسيحيين. استيعاب الجميع ويقول الدكتور مجدي عاشور المستشار الأكاديمي لمفتي الجمهورية وامين الفتوي بدار الافتاء المصرية- إن الفقه الإسلامي استطاع- بسمو غايته وأهدافه وقابليته للثبات والاستمرار, وشمولية التصور والمرونة في التطبيق بالإضافة إلي تنوعه وثرائه- أن يحقق التعايش بين المذاهب والطوائف والأديان المختلفة ويحفظها من الصراع أو التصادم. واشار الي انه أعد بحثا حول فقه التعايش مع الآخر أوضح فيه استنباط طرق ومناهج للعيش مع غير المسلمين سواء كانوا ممن يعيشون مع المسلمين في مجتمع واحد, أو ممن ينفصلون عنهم, من خلال فقه السادة المالكية, مما يسهم إسهاما كبيرا في الارتقاء بمستوي العيش مع الآخر وفق اجتهادات تنضبط بأصول الشرع الشريف ومقاصده المنيفة, وبما يساعد في استجلاء مدي تعايش الفقه الإسلامي مع الآخر. ويهدف البحث إلي تسليط الضوء علي عيش الفقه المالكي مع الآخر وفق الضوابط الإسلامية المرعية, وهو قد تحقق بصورة لافتة للنظر; مما جعل الآخر يتخذ منه تشريعات وقوانين حاكمة لينظم بها شئون حياته ومعاشه. وتضم محاور البحث,مفاهيم وأسس العيش مع الآخر,بما فيها حقوق الآخر, وفيه تم تناول حقوق الآخر باعتباره جزءا من المجتمع الإسلامي كحقوقه العقدية مثل: حرية الاعتقاد, وبناء دور العبادة, وحقوقه الشخصية: كحق الإقامة والتنقل,وحق الأمان علي النفس والمال والعرض, ثم الحقوق السياسية:كتوليه الولايات, وقبول شهادته ووكالته,وكذلك الحقوق الاقتصادية: كالعمل وتكوين الثروة, وإعطائه من القرباتالمالية للمسلمين, وفيه ايضا بيان حقوق الآخر باعتباره جزءا منفصلا عن المجتمع الإسلامي كإبرام المعاهدات,والاستعانة به في الحرب, والحصانة الدبلوماسية لمبتعثيه. قواعد التعامل مع الآخر ومن جانبه اكد الدكتور نبيل السمالوطي استاذ علم الاجتماع بجامعة الأزهر,انه بعد نزول الوحي لم يترك الرسولصلي الله عليه وسلمولا أصحابه الأوائل ممن آمن بدعوته أشغالهم, كما لم يحبسوا أنفسهم عن الناس وعن التجارة والسفر رغم ما عانوه من اضطهاد قريش, ولم يرفض المسلمون التعايش مع الآخر,وكلما وفد عليه صلي الله عليه وسلم أحد أبناء القبائل العربية, وأسلم علي يده, يأمره بالعودة إلي قومه المشركين ليعيش معهم, هكذا فعل مع ضماد الأزدي, وعمرو بن عبسة السلمي, والطفيل بن عمرو الدوسي, وأبو ذر الغفاري, كما ذكرت جميع كتب السيرة, فالرسولصلي الله عليه وسلم أول من دعا إلي العيش المشترك مع الآخرين. وأشارالي ان المسلمين الأوائل قد استوعبوا- من خلال تعايش الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم لأهل مكة والقبائل التي حولها- أهمية إجادة فن التعايش في حياتهم أيضا, لأنها الأسلوب الأمثل للدعوة لمكارم الدين والخلق, وهذا يقتضي تطبيق جملة من القواعد,منها الاجتهاد حتي ايجاد المنطقة المشتركة مع الآخر,وايضا البحث عن كل علم وعمل يساعد علي ايجاد ذلك,بالاضافة اليالاندماج في المجتمع وعدم الانعزال عنه,مع عدم الاختلاف عن المجتمع في طريقة الكلام أو في طريقة الحديث, ولكن مع عدم فقد الهوية,وايضا عدم رفض أي فكرة بشكل مطلق حتي ايجاد إمكانية الاستفادة منها في منطقة مشتركة,فلا يتم رفض الفكرة لمجرد الاعتراض ولكن لابد من محاولة التفكيرفيها أو التعديل فيها,وهناك من لا يقتنع بفكرة فيرفضها,موضحا ضرورة اعطاء مساحة للتفكير,مع عدم ظلم المخالف في الرأي حتي لايتحول إلي عدو. وأكد ضرورة صدق النية في تجميع الناس وإرادة الحق; فهناك من يريد الحق وفقا لهواه,فقبل دخول النقاش يضع الحق في كفة وهواه في كفة, ويرجح هواه مسبقا,من احترام الناس وكسب قلوبهم,من خلال المرونة والتخلق بالأخلاق الانسانية الفاضلة,بالاضافة الي حب الناس حتي لو حدث خلاف بينكم,موضحا ان التعايش مع الآخر في الوطن الواحد لا يعني الذوبان. نماذج تاريخية وشدد الدكتور عطية مصطفي استاذ الدعوة والثقافة الاسلامية بكلية أصول الدين جامعة الازهر,علي ضرورة تطبيق قواعد العيش المشترك,حتي نبني وطنا آمنا للجميع,موضحا انه من خلال تطبيق المسلمين لهذه القواعد نري أن مشركي قريش هم من قاموا بنبذ المسلمين ورفض التعامل معهم, وفرضوا حصارا علي المسلمين في شعب أبي طالب ثلاث سنوات, حتي اشتد بهم البلاء, ولجأ الصغار إلي أكل ورق الشجر, ووصل الظلم مداه إلي أن كره عامة قريش ما أصاب المسلمين, وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة, فنقضوها,كما لم يهجر الرسول صلي الله عليه وسلم الكعبة, ولم يمنعه وجود الشرك وكثرة الأصنام فيها عن ارتيادها. ولقد وجد المسلمون من صنوف العذاب ألوانا علي يد مشركي قريش, إذ وثبت كل قبيلة علي من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر, ليفتنوهم عن دينهم. وكان رسول اللهصلي الله عليه وسلميحثهم علي الصبر وقوة التحمل إلي أن يجعل الله لهم مخرجا. واشار الي ان الرسولصلي الله عليه وسلم اعطي نموذجا إنسانيا ساميا للتعايش مع الآخر في ظل الاضطهاد والتعذيب, إذ لم يعاملهم بالمثل, بل قابل السيئة بالحسنة, مصداقا لقوله تعالي: وإنك لعلي خلق عظيم, فكان أهل مكة- رغم تكذيبهم واضطهادهم له- يأتمنونه علي أشيائهم الثمينة والنفيسة, وقد تجلي صدق المعاملة والأمانة حين أمرصلي الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلي المدينة فترك وراءه الإمام علي بن أبي طالبليرد الأمانات إلي أهلها, ليكون مثالا فريدا في حفظ الأمانات والحرص علي تأديتها لأهلها رغم عداوتهم واضطهادهم له, مصداقا لقوله تعالي:ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي. وأوضح ان المعاملة الحسنة في مواجهة الإساءة, تجعل العدو صديقا, وتكون بابا من أبواب الدعوة إلي الإسلام بين غير المسلمين, كما قال الله عز وجل:ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم,مشيرا الي ان نموذج( الصبر علي البلاء في التعايش مع الآخر) يعد مثالا يحتذي في كل زمان ومكان, خاصة عندما يكون المسلمون أقلية في بلاد يعمل المتشددون فيها علي تشويه صورة الإسلام والمسلمين, ويحاولون اضطهادهم وإقصاءهم, ساعتها يتذكر المسلمون أسلافهم فيقتدون بهم في التمسك بثوابت الدين الحنيف مع بسط ثقافة التعايش السلمي ومكارم الأخلاق في العالمين.