نجح مؤلف ومخرج' فبراير الأسود' محمد أمين في تأكيد فكرته الأساسية في فيلمه الذي يرصد الواقع الأليم لمجتمع العلم في مصر في إطار فانتازيا تجمع بين الضحك والبكاء في آن واحد, وهي تجربة سينمائية أراها ناضجة إذا أمكن التغاضي عن بعض الهنات البسيطة علي مستوي الإخراج والمونتاج والإضاءة, وأيضا علي قلة الأماكن التي تم فيها التصوير إلا أن المشاهد يظل مشدودا نحو الفكرة الأساسية التي تضغط علي العصب العاري في قلب مجتمع تراخي في منظومة التعليم لسنوات طويلة حتي طفت علي السطح معللة أسباب تراجعنا وتخلفنا خلال السنوات الماضية جراء ذلك الإهمال المتعمد للعلماء والباحثين الذين لقوا مرارات وعذابات اجتهادهم والحفاظ علي الحد الأدني من إنسانيتهم ووطنيتهم وسط حالة من التجاهل والإهمال والفوضي التي أدت بنا إلي ذلك المستنقع الذي تعيشه الآن مصر وهو ما أدي بها إلي أن تستورد55% من غذائها من الخارج. تأتي تطورات الأحداث عبر شريط' فبراير الأسود' لتسير بشكل منطقي يخلو إلي حد كبير من العيوب- إلا التكرار في بعض مناطق الحوار- الذي لا تشعر به كثيرا من فرط المواقف الكوميدية التي تتفجر في قلب المواقف التراجيدية التي تميل في مجملها إلي لون من الدراما المتماسكة بخيوط مشدودة علي أعصاب المشاهد, وهو مايدفع في رأسك أسئلة كثيرة تطرأ علي ذهنك من وحي اللحظة وأنت في قلب الأحداث, خاصة بعد تعرض الفيلم لهجوم حاد من جانب العديد من نقاد السينما, علي رغم إنه يأتي بمثابة كشف حقيقي لحجم هائل من التشوهات النفسية والاجتماعية التي طرأت علي الشخصية المصرية خلال نصف قرن من الزمان, وهو ما يؤكد بما لايدع مجالا للشك أن التجريف الذي أصاب حياة الإنسان المصري' العالم والباحث علي وجه الخصوص' أدي بالضرورة إلي القضاء علي البنية الأساسية للنمو, تلك البنية التي يعد العنصر البشري فيها أهم عناصر الاستثمار في زمن العلم والتكنولوجيا, فضلا عن ضياع القيم وضرب المنظومة الأخلاقية والفساد الذي قاد البلاد نحو حافة الهاوية, وهو ماعكسته بشكل واضح حالة الأسرة المصرية النابغة في مجالات البحث العلمي المختلفة كما جاءت في سياق الأحداث. واقع الأمر أن' محمد أمين' لم يعجب النقاد في طريقة تناوله وصناعته التي اعتبرها صناعة ثقيلة في وقت تتقطع فيه خيوط الفن السابع, فالفيلم التقط مجموعة من الخيوط المتشابكة والمعقدة وصاغها في شريط جعل المخرج أشبه بجراح يمسك بمشرط وأراد أن يقوم بعملية قلب مفتوح لمريض عليل هو' مصر' تلك التي أضناها التعب, وتكسرت كل أجنحة أحلامها في غد أكثر إشراقا علي صخرة الواقع المصري المريرالذي ظل يدور في فلك عصابات حاكمة فرضت عليها نمطا من الحياة العقيمة التي لن تجدي معها الآن كل وسائل العلاج الممكنة وغير الممكنة, وهو ما اشارت إليه أصابع المؤلف ونفذته نفس الأصابع المخرجة في شريط يؤكد أن ذلك الجسد العليل يحتاج إلي جراحات متعددة الآن قبل غد حتي تنهض البلاد وتنفض عن كاهلها ذلك الماضي البغيض الذي كاد يخرجها من التاريخ الحديث, لولا قيام ثورة25 يناير التي لاتزال حتي الآن تراوح مكانها بفعل انسحاب نفس معاناة هذا الماضي علي مجمل حياتنا الحالية, والذي مازال يضرب بجذوره في عمق التربة المصرية, حيث لم يكتب لها بعد الخلاص لتحلق في سماء العلم والحضارة من جديد. قيمة العلم والعلماء توارت بلاشك خلال السنوات الأخيرة في ظل النظام السابق, وبفضل حالة من التحلل القيمي والأخلاقي أدت إلي تفكيك كل عناصر المجتمع وأحدثت التفسخ وانعدام الثقة, وبدلت الأمل بمحاولات نفاقية علي سبيل التقرب من السلطة باعتبارها طريق الأمان الوحيد للخروج من الأزمات المتلاحقة, حتي ولو كانت علي حساب التراث الأخلاقي الذي تغير مع تغير النفوس علي كل المستويات داخل الأسرة التي أغفلت- من خلال هذا الفيلم- كل تراثها العلمي الذي يشير إلي التفوق والنبوغ, وضربت عرض الحائط بكل ما حصلت عليه من نتاج علمي, لتسير علي درب الفوضي الأخلاقية والحصول علي الأمان بالتقرب المزعوم من قبضة السلطة الحاكمة والدخول في سراب لا ينتهي في سلسلة متواصلة من حالات من التحلل الأخلاقي تمثلت في خطبة البنت الجميلة' ميار الغيطي' لضابط بأمن الدولة, ثم مسئول في القصر الرئاسي, المهم أن تتزوج واحدا من أبناء هذه السلطة وبأي ثمن, وهي في ذلك تفعل كل مايمكن أن يضمن لها الأمان داخل حدود الوطن أو محاولات أخري في خط متواز يحقق حلم الهجرة التي أصبحت صعبة المنال في ظل زحف غير منطقي لأصحاب الثروة الجدد. هل يعقل أن نكون قد وصلنا إلي تلك الحالة من التشوهات المرعبة؟ هذا سؤال حتمي سيظل يطارد رأسك طيلة مشاهدتك لوقائع هذا الفيلم من نوع' الفانتازيا' الضاحكة المبكية, هو نوع من الكوميديا السوداء والفانتازيا التي بها قدر من المبالغة المنطقية والمقبولة في الإطار العام للفيلم, الذي لا ينتمي للحقيقة في كثير من أحداثه, وبالتالي لا يمكن الحكم عليه بمعطيات المنطق والواقع إلا أنه في الوقت نفسه يضغط علي العصب العاري في المجتمع- كما ذكرنا من قبل- وهو ما يتجلي واضحا في طريقة أداء الفنان الكبير خالد صالح الذي برع علي المستوي النفسي والجسماني في تجسيد شخصية الأستاذ الجامعي' الدكتور حسن', والثاني' صلاح طارق عبدالعزيز الذي يعمل عالم كيميائي و ينتهي به المطاف إلي أن يعمل بائع طرشي, ويحدث لهما عدة مواقف مأساوية تجعلهما يعيشان بأسرتيهما بين صراع في إثبات النبوغ العلمي والبحث عن وسائل آمنة للعيش في بلدهما الذي يحبانه ويجلنه برفع العلم علي سطح المنزل, وما بين فقدان الأمل في أحايين كثيرة, فما يجري حول الجميع من أحداث وصراعات علي السلطة والمال ربما يفوق قدرات الأسرة العلمية الفذة التي عبرعنها محمد أمين بشكل رائع في بداية الفيلم عبرعدة مشاهد متتالية علي أثر غرق البطل وأخيه وأفراد أسرتيهما مع ضابط شرطة كبير وقاض كانت السلطات حريصة كل الحرص علي انقاذهما قبل أن يتم انقاذ الأسرتين بقطيع من الكلاب. خلاصة الفكرة من الفيلم وكما طرأت علي عقل مؤلفه ومخرجه وعالجها بنوع من الفاتنازيا التي تتواكب مع حدة ماجري في مصر خلال العقود الماضية, أن هناك فئات معينة من المجتمع هي التي تشعر بالأمان فقط, وارتبط ذلك بالنفوذ أو الثروة, بمعني أن تكون مستشارا أو ضابطا برتبة كبيرة, أو صاحب ثروة, وما عدا ذلك لن تشعر بالأمان علي الإطلاق, وكان السؤال المطروح هو: ماذا ينتظر المجتمع وأكثر من95% من أبنائه لا يشعرون بالأمان, كيف يتوقع أن ينجزوا تحت ضغوط الإحساس بالخطر وعدم الأمان؟!! وإلي جانب هذه الفكرة أعتقد أن أي مجتمع لن يكتب له التقدم أبدا إلا بالاعتماد علي العلم, ومن هنا قدم محمد أمين عملا ينتصر للمنهج العلمي في التفكير, مادام أن المجتمع بعد الثورة يسعي لوضع منطق جديد لإدارة حياته ومستقبله, باعتبار أن العلم هو طوق النجاة الحقيقي, وتلك حقيقة لابد أن ندركها الآن في قلب أزماتنا العاصفة.