فكرة الفيلم قدم أيمن بهجت قمر الفيلم بحرفية كبيرة، عبر سيناريو محكم وشديد العمق والدهاء، حيث يكسر باستمرار توقع المشاهدين ويفاجئهم تباعًا بما ليس في الحسبان، ليؤكد أن التزييف الأخلاقي قد صار مرضًا واسع الانتشار، فلم يقتصر علي العملات وجوازات السفر وعقود البيع والشراء، وإنما انتقل أيضا إلي تقمص الأدوار وانتحال الصفات، فمن «تحسبه موسي يطلع فرعون»، ولا تنتهي الحيل في جراب الحاوي، مادام الهدف هو الوصول للذهب، والحصول علي المال. ويكشف الفيلم في فكرته الأساسية حقيقة الاتجار بالدين من خلال شخصية ابن القنصل أحمد السقا الذي يسبك الدور من خلال الجلباب الطويل واللحية والطاقية البيضاء ويرسم أيمن بهجت قمر ملامح هذه الشخصية بإتقان سواء في المظهر الرافض للمجتمع أو من طريقته في الكلام، فهو يجذب كل شيء إلي التدين مستندًا إلي كم هائل من الشعارات، إلا أنه يستغل كل ذلك ليقنع «والده» خالد صالح بأنه ابنه، ولابد أن يؤمن به، وتدور بينهما مشاكسات تؤدي وظيفة مهمة في دفع عجلة الأحداث، منذ خروج «القنصل» من السجن، ليكتشف أن الإسكندرية تغيرت وامتلأت «بالتوك توك» الذي يدل في مظهره علي تواضع مواصلات الفقراء، ويري القنصل فتيات متبرجات، وعن يمينه فتيات بالنقاب، في دلالة علي أن المجتمع يعيش نوعًا من الانقسام، وفي الوقت الذي يحرص فيه القنصل علي أن يكون ميالاً للمتبرجات بحكم حرمانه في السجن، يؤكد ابنه انتماءه للنوع الثاني، وعلي هذا الأساس يبني أيمن بهجت قمر مركز هذا الصراع، حيث يجري «القنصل» وراء شهواته، بينما يصر ابنه علي أن يتجنب الحرام، ولكنه أيضًا يتورط مع جماعة إرهابية تجعله يقضي سنوات من عمره داخل المعتقل ومن خلال ذلك يكشف الفيلم عن العقل الباطن الذي يسيطر علي فكر هذه الجماعات، وكيف تستخدم التكنولوجيا الحديثة في التلاقي والاتصال بل تنتقد الجميع علي أساس أن كل شيء قد أصبح «مضروبًا»، وأن الصين قد اخترقت الأسواق المصرية ولا يوجد أي شيء أصلي. فالتقليد هو النغمة السائدة في الحياة لدي المصريين، ويصادف ذلك هوًي في نفس «القنصل» الذي كان قبل سجنه يضرب توقيعًا واحدًا، وعندما خرج وجد أن الصين قد زيفت كل ما يحيط به من أشياء، وتدور حدة الصراع بين خالد صالح وأحمد السقا بمحاولة كل طرف السيطرة علي الآخر. وطوال الفيلم يراود المشاهد احتمال مطروح وسؤال مهم.. وهو هل تنتصر القيمة الزائفة للقنصل اللص الافاق، أم لابنه صاحب القيم والأخلاق، وعلي طريقة «يا عزيزي كلنا لصوص»، يتلقي المشاهدون صدمة كبري عندما يتضح أن القنصل كان ضحية مؤامرة، فلا أحمد السقا ابنه ولا هو متدين، ولا غادة عادل التي جسدت دور «فتاة الليل» غانية، كما أن خالد سرحان أمير جماعة الإرهاب بعيد تماما عن هذا الإطار، وكان الهدف هو الوصول إلي سبائك الذهب التي أخفاها «القنصل» عن شريكيه القدامي، ليبدأ المشاهد في رحلة الفلاش باك يستعيد تفاصيل القصة ليكتشف حقيقة التلاعب بالدين واستخدامه كستار، وكأن ذلك هو الأيقونة السحرية التي تحرك عصا الإرهاب في كل زمان ومكان، فالزيف تسلل إلي كل النفوس، وسيطرت المادة علي القلوب والعقول وتحكمت في الوسائل والأهداف، وأصبح نادرًا أن تجد شخصية صادقة، أو ذات وجه واحد، فالكل صار يلعب علي كل الحبال، وأصبح الإنسان متعدد الوجوه والصفات والقسمات.. وقد عبر المخرج عمرو عرفة عن ذلك في المشهد الذي ينزل فيه خالد صالح عن سلم قسم الشرطة، وهو مقيد في الكلبشات، حيث يري أحمد السقا في صور متعددة، تتراوح بين الساعي والشاب المتدين والضابط والعسكري والمواطن، وتزداد كثافة الموقف حتي يتأكد «القنصل» من خداع الناس له، فيقرر الهروب من عالمه إلي البحر في لعبة كوميدية محكمة. عمرو عرفة أبدع في تحكمه بالمشهد السينمائي تمسك عمرو عرفة في الفيلم بقدرته علي صناعة المشهد السينمائي النابض بالحياة، واستغل وجود الأشخاص وعلاقتهم بالمكان والأشياء ليعكس العديد من الدلالات، واستطاع أن يوظف طاقات الممثلين بما يخدم طبيعة كل دور علي حدة، كما نجح في توفير حالة من الانسجام التمثيلي، فيما بينهم من أداء فغادة عادل وخالد صالح وأحمد السقا، حيث قدموا مجموعة من المشاهد بنوع من التوافق الكامل مع احتفاظ كل فنان بالكاركتر المختلف الذي يجسده. يحسب لعمرو عرفة أنه أخرج أحمد السقا من عباءة العنف والبلطجة السينمائية، وجذبه من يديه إلي منطقة أخري يكون التمثيل وحده فيها هو أهم الأشياء، بلا دماء ولا تحطيم سيارات كما أن للمخرج دورا أساسيا في توزيع حجم الأدوار، فقد تم ذلك بنوع من التوازن المحكم، فلا يوجد دور نلاحظ عليه الزيادة أو النقصان أو الترهل أو الإفراط بل تمت صناعة وجبة سينمائية محددة العناصر، وركز المخرج علي أن يطرح كوميديا صادمة تعتمد علي الموقف بلا إسفاف ولا ابتذال، ولم يكن بعيدا عن لمس أوتار المجتمع، فمازلت أصر علي أن الفيلم قدم نقدا اجتماعيا للتركيبة العجيبة من تناقض بعض الشخصيات وما يحيط بها من أمراض المجتمع. وأهم ما في الفيلم أنه يعتمد في طرحه الكوميدي علي فريق العمل بكل ما فيه من ممثلين رئيسيين وثانويين، فالكل له دور في استكمال رتوش الحالة العامة للفيلم مما فجر طاقات كوميدية غير تقليدية. السقا وخالد صالح تناغم فني في الأداء يثبت خالد صالح أنه ممثل جامع لقدرات التقمص والتجسيد لأنه يعايش الدور بكل ما فيه من تفاصيل حيث يرسم الشخصية بدءا من مظهرها الخارجي ويحدد لها نوعية «المشية» الخاصة بها وكذلك طريقة الكلام بالإضافة إلي الحركات واللفتات، وهو أثناء ذلك كله يحتوي المشاهد الذي لا يجد مفرا من الوقوع تحت تأثير خالد صالح وطريقته في الأداء لدرجة أنك تلاحظ وجود ظلال بعيدة من شخصيات قدمها هذا الفنان من قبل وكأنك تشعر بروح الشيخ مصباح، وسطوة أمين الشرطة وهذا ناتج من تركيبة «القنصل» الذي أعده شخصية تجمع في داخلها شخصيات أخري كثير، وقد برع خالد صالح في تقديم دور الرجل العجوز وما يطرأ عليه من نوبات التصابي والرغبة في الانفلات، وأهم المشاهد التي يشارك فيها خالد صالح داخل أحداث الفيلم هي المشاهد التي كان يجسد فيها الموقف التمثيلي بمفرده بدءًا من مشهد ركوعه أمام قبر أبيه وحديثه المؤثر تجاه والديه رغم رقودهما تحت التراب، وانتهاء بمشهد عودة الوعي إليه في حوش القبر ومن حوله خيوط الدماء وفقده لابنه الذي يعرف أن قد قتل أو واجه مصيرا محتوما، وتخبطه بحثا عن الذهب الذي فقده أيضا، وصدمة الانكسار والضياع، وأهم ما يقدمه خالد صالح في مشاهده انعكاس الصدمات علي تعبيرات وجهه والتحكم في ردود الأفعال. أعتقد أن الفيلم كان من الممكن أن ينتهي بهذه النهاية إلا أننا نفاجأ بالعديد من التطويل في شرح ما حدث، وهو من باب لزوم ما لا يلزم، لأن الربع ساعة الأخيرة من الفيلم لا تضيف جديدا وإنما تعد «اسكتش» كوميدي تم إقحامه مثل القفلات المسرحية بوجهها المعتاد فالمشاهد الأخيرة من الفيلم كانت مسرحية. تخلص أحمد السقا من حرق موهبته الفنية في أفلام الأكشن وبدأ يركز علي مفردات التمثيل والأداء ودقة اختيار الدور بغض النظر عن مساحته أو حجمه داخل بنيه الأحداث، وشكل السقا بأدائه شخصيتين مختلفتين أولا شخصية الشاب الملتحي بكل ما يحيط بها من ملامح خاصة جدا، وشخصية الشاب العادي الذي ورث خفة اليد والذكاء والقدرة علي التزوير وكان السقا مقنعا في تقديم نفسه للمشاهد بكلتا الحالتين، إلا أنه أضاف إلي أدائه نوعا من الكوميديا الخفيفة التي تستحق الإعجاب والتقدير، فهي مفعمة بخبرة سينمائية وحدس فني مرهف، وقد ظهرت موهبة السقا في أداء المشاهد المركبة التي تجمع بين نوعين من الانفعال في وقت واحد، ففي المشهد الذي يغضب خلاله من اتهام القنصل له، تبدو عليه تعبيرات الحزن إلا أنه في الحقيقة يبطن سعادة خفية لنجاحه في خداع كل الأطراف، وقد حقق السقا بفيلم «ابن القنصل» نوعًا من التصالح مع جمهوره واستأنف نجوميته التي كادت تفلت خيوطها من يده في فيلمي «إبراهيم الأبيض» و«الديلر». أما غادة عادل رغم أن الشخصية سطحية في بنائها وتكوينها العام إلا أن غادة استطاعت أن تمنحها نوعا من الحضور القوي علي الشاشة. ويعكس الفيلم أهمية الأدوار جميعها داخل نطاق أحداثه، حيث لا يمكن حذف أي دور منها علي الإطلاق، لأن الدور يمثل ركيزة أساسية في سبك الإيهام والفيلم أتاح للممثلين أن يقدموا نمطين من الشخصيات. انطلاقا من فلسفة سينمائية تؤكد أن لكل شيء وجهين في الحياة وما بين الحقيقي والمزيف تتم صناعة الأكاذيب والضحك علي الذقون بمعسول الأفكار الذي تمارسه بعض الجماعات. علي طريقة ياعزيزي كلنا لصوص يقدم فيلم «ابن القنصل» رصدًا لتغيرات المجتمع، وما طرأ عليه من انتهاكات وتشوهات، فمصر باتت تضم العديد من الاختلافات والتناقضات الاجتماعية الصارخة.. ووسط هذا التشتت الحضاري تتمزق القيم وتعلو نبرة الاحتيال بكل أشكاله، والفيلم صورة كوميدية مقلقة لما صارت إليه المصائر والأحوال، فالنصابون والمحتالون يباح لهم التلاعب بالضمير والدين لخداع الناس.