وقال لها في ذاك اليوم: لاتشربي من يد احد غيرك, فيزيد عطشك ثم رفع كفها الصغير إلي فمه, وقبلها. بالتأكيد كان أبي يرحمه الله رغم سخرية الآخرين هو الوحيد الذي يري ظلال الشجر اليابس, وهو يتحرك من خلف الكثبان الرملية من مهد صحرائه السحيقة, زاحفا وحتي مشارف المدينة وهي رفضت هدية الجمعية الخيرية, جاكيت القطيفة الزيتوني: كانت اذا ما اشتد الابتراد, تنكمش.. تنفرد, صانعة طبقات جديدة لجلدها الرهيف, فلتصفعها الشتاءات كيف تشاء لكنها لن تتراجع, ولربما يأتي صيف هجيره يقدد الأوصال, ولايهمها بالحصوات تحت اللسان جاهزة, تستحبلها اذا ما اشتد الظمأ. أبي أعرف انك تسمعني الآن, فلربما تأتيني الشجاعة لان اخاطبك من خلف هذه الجبال والهضاب والوديان, اقول لك بأنني ما خالفت وصيتك ابدا, إلا مرة واحدة, يومها سمحت له فيها فقط ان يمسك بيدي, وأنا اشرب كأس الفراولة, فساعدني ان ارتشف بعض الرشفات, أو تتذكر يا ابي عصير الفراولة ومن جعله مشروبي المفضل؟ أليس هو انت. أنا كبرت يا أبي ورفيقاتي كلهن تزوجن, واقسم لك بأنني ما اردت الزواج إلا لحلمي بولد يشبهك.. اسمه علي اسمك, لكنه سافر يا ابي إلي هذه الخلجان الضاوية بذهبها المملح, وطالت غيبته, ولم يعد, صارت اغنية فيروز انشودتي الاثيرة. نطرتك أنا ندهتك أنا رسمتك علي المشاوير ياهم العمر.. يا دمع الزهر يا مواسم العصافير يقولون جميعهم: انني ورثت نشفان الدماغ واللماضة عنك, وان وجهي استدار, وملامحي نحتت, فأصبحت صورة طبق الاصل من صورتك المعلقة في غرفة الصالون المؤطرة بالسواد. احيانا اغلق علي غرفتي, وادخل في هذا البالطوا البني, المفضل لديك وأروح وانا اجرجره, اقلد مشيتك, التي كانت تشوبها زكة خفيفة, وكنت كلما انتويت سؤالك في حينها عن السبب انشغل وأنسي وأراك في جلوسك في الصالة علي كرسيك المفضل, الذي هبطت مقعدته, فصارت قريبة من الارض, فاردا ساقيك قدر الاستطاعة, تاركا لي حرية خلع حذائك, وكم كنت ترفض في البداية, ولما ادركت ان هذا الشيء يسعدني, تركتني, وحين تعلو الاصوات قليلا, ترفع يديك مشيرا أو محذرا, اركب كل المقامات لاحاكي صوتك. يا بنتي خذي لك كتاب صفحيه أحسن من دخولك وخروجك من غرفة لغرفة ساعتها كنت احس ان اذني ليستا في رأسي, لكنهما متحفزتان داخل صدري اعرفك يا ابي بأن اشياءك كلها مازالت بمكانها في الحفظ والصون, فلدي احساس خفي بأن غيابك لن يطول: نظارة المشي والقراءة.. مظلة الشتاء والصيف.. مبسم السجائر.. لبيسة الاحذية.. عصاتك الابنوس اذ يعلوها رأس اسد معدني.. اقلامك الحبر.. الورقة المسطرة بمشبكها, لتضع عليها الورقة البيضاء حين الكتابة.. مقالاتك في المجلات والجرائد.. صورك مع اصدقائك الذين لم نر واحدا منهم بعد رحيلك. كما أعرفك يأ أبي.. بأنني قد اكتسبت خبرات جديدة, وأصبحت ماهرة جدا في استعمال الكمبيوتر, وأنه بإمكاني الآن ان اجمع مكتبتك هذه المهولة في قرص بلاستيكي صغير, كما أنني نجحت في استئناس الثعابين والضباع والذئاب وتجار الخردة وجعلتهم يطربون لوقع كلماتي, ويشيدون بقصصي القصيرة. أوتعرف ان الحلم الوحيد, الذي يأتيني أثناء ساعات نومي القليلة, الحلم صار مكرورا, ولا استطيع ان اتخذ موقفا تجاهه, لأنني لا استطيع الوصول إليك, في كل مرة اراك هكذا رابضا من بعيد علي قمة الجبل كأنك أبوالهول تحرس الكون الغاني, وهذا العصفور السابح في فضاء الوادي امامك, فما ان ينتزعوا عنه جناحيه, ويبدأ في فقدان توازنه, والدخول في دوامة السقوط, حتي تتنابت له اجنحة جديدة, ويعاود التحليق لاشيء يتغير في الحلم سوي لون الفراغ, الذي يتراوح ما بين الشفقي والرصاصي والبنفسج المخنوق. تسائلني عن حالتي هذه غير المستقرة, وأنني صرت اما عصبية كقطة ينتزعون منها صغارها, واما راكدة كوصلة ريح مجذوذة صدقني وانت تعلم كل شيء. الحكاية كلها لاتتعدي عملية دفاع تلقائية عن النفس تجاه هذا الحزن المقيم, الغول المسمي باليتم. ثم ألم تعلمني انت: ان نصف الحلول منطقة مأهولة بالريبة, فأنا لا أريد ان اصبح عانسا, ولا أريد كذلك ان اصبح كاتبة أو مصممة جرافيك نصف كم. ولم لا تقول انه شيء وراثي فعلي ان ادفع ثمن الدفاع عن رؤيتي كما دفعت انت ثمن الوقوف في وجه الريح الفاسدة. ابي دعك من هذا, فقد جاء دوري الآن لأسألك: كيف هي الحياة عندك؟ بالطبع قابلت جدي هناك كيف هي احواله؟ امازال يهوي شرب القرفة باللبن وزراعة الزهور؟ ولماذا صمتك هكذا يطول ؟ آه فقد نسيت ان الوقت ينتهي دائما عند هذا السؤال. نظرت لأسفل حيث منبت ظلها, وناست علي شفتيها ابتسامة فدائما لطول سيرها عبر متاهات المسافات ما يلتصق بقدميها هذا الصندل الجلدي المنحول, ولا تكتشف ذلك إلا حين وضوء الفجر, انسيت من التعب؟ ام اخفقت في خلعه قبل ان تنام؟ لايهم الآن فالنتيجة واحدة فردت الورقة الصغيرة امام عينيها, لتتأكد من عنوان العمل في الإعلان المتروي بالصفحة, ربما تكون المحاولة رقم... هي بالتأكيد لاتذكر رقما محددا, لكنها لن تمل البحث والطرق علي كل الابواب. طوت الورقة, دستها في حقيبتها, ومضت بخطوات, جاهدت أن تكون واثقة, وتهز رأسها علامة الموافقة علي انها لاحظت هذه الزكة الخفيفة في مشيتها, مضت يرن في اذنيها صوت ابيها الرخيم, وعيناها تجوبان السماء الفسيحة, وتنسرب الابتسامات فجأة لما تري عصافير الفضاءات, التي ما تكاد تهوي حتي تعاود التحليق مرة ثانية. H عضو نادي القصة