كلفه مبارك بالوزارة وعهد بها لعاطف صدقي كان طبيعيا بعد استقالة د.علي لطفي( نوفمبر68) أن يأتي الدور علي الجنزوري, الذي أكد لي أن مبارك كلفه فعلا ببدء إعداد التشكيل, فلما علم الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب بذلك قال لمبارك مامعناه إن الجنزوري مازال المستقبل مفتوحا أمامه, وإنه سيشير عليه بشخصية تمسك من خلال عملها بمصارين الدولة. ولم يضع مبارك وقتا ففي اليوم التالي ذهب عاطف صدقي رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات إلي موعد مع الرئيس, وقد حمل معه كميات كبيرة من الملفات التي سهر الليل في جمعها تصورا أن الرئيس سيسأله فيها, ولكن الرئيس طلب إليه أن يترك الملفات والدوسيهات جانبا ويشرب فنجان القهوة أمامه. وعندما امتدت يده إلي الفنجان جاءته آخر مفاجأة كان يتوقعها بتكليف الرئيس له رئاسة الوزارة, فاهتزت أصابعه وكاد فنجان القهوة كما حكي لي رحمه الله يسقط من يده! سنوات الاغتيالات والعنف كان عاطف صدقي وهو من مواليد03 أغسطس0391( توفي في فبراير5002) أطول رئيس وزراء, استمر في منصبه ليس فقط في فترة حسني مبارك وإنما منذ ثورة يوليو25, فقد رأس الوزارة من11 نوفمبر68 إلي4 يناير69 مجريا ثلاثة تعديلات عليها. وقد كان نموذجا لرئيس الوزراء الذي لايضيق بالنقد العنيف المتوالي الذي كان يوجه إليه في الصحف وكان علي رأس منتقديه بسخرية شديدة الثنائي أحمد رجب ومصطفي حسين, مع ذلك كان صدقي يستقبلهما بالأحضان عند رؤيتهما. وقد صادفت فترة عاطف صدقي رياحا طيبة, إذ مع حرب تحرير الكويت عام0991 تخففت مصر من قيود أقساط الديون الأمريكية التي ألغتها أمريكا, وكانت هما كبيرا وتحسنت إلي حد ما الأوضاع الاقصادية. إلا أن فترته شهدت من ناحية أخري تصاعد عمليات العنف والاغتيالات التي قامت بها التيارات الإسلامية المتطرفة والتي اغتالت الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب(0991), والكاتب المفكر الدكتور فرج فودة( يونيو29). وفي عام39 فشلت محاولات اغتيال اللواء حسن الألفي وهو وزير داخلية وعاطف صدقي وهو رئيس وزراء وصفوت الشريف وهو وزير إعلام والكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد. وبعد ذلك جرت محاولة اغتيال نجيب محفوظ عام49, ثم في71 نوفمبر7991 روعت مصر بمذبحة الدير البحري في الاقصر عندما هاجم ستة مسلحين بالرشاشات والسكاكين وهم متنكرون في ملابس جنود الأمن زوار الدير فقتلوا26 وأصابوا62 سائحا أجنبيا, ثم استولوا علي أحد الاتوبيسات السياحية الخاصة بأحد الوفود واختفوا وبعد بحث طويل تم العثور عليهم في أحد الكهوف وقد انتحروا جميعا, إلا أن هذا الحادث كان له تأثير سلبي شديد علي السياحة في مصر في ذلك الوقت. وفي عام9891 أجري د. عاطف صدقي عملية جراحية في القلب بدا بعدها أن صحته لن تتحمل, وبالفعل بدأ مبارك التفكير في رئيس وزراء جديد ولكنه قرر الانتظار إلي العام التالي حتي لايبدو أنه يعاقب صدقي علي عمل لاذنب له فيه. ولكن مع غزو صدام حسين للكويت في أغسطس0991 الذي كان محددا لتغيير عاطف صدقي انقلب حال الوطن العربي, وطفت فوق السطح أحداث كبري. وظل عاطف رئيسا للوزارة إلي يناير.6991 وأخيرا بعد انتظار طويل جاء دور الدكتور كمال الجنزوري ليصبح رئيسا للوزراء في4 يناير6991 وليكون رئيس الوزراء رقم خمسة في قائمة رؤساء وزارات مبارك. نظرة إلي المستقبل كانت رؤية الجنزوري من خلال توليه وزارة التخطيط نحو عشرين سنة تتركز في الخروج من الوادي الضيق الذي ينحصر فيه ملايين المصريين فاتجه إلي المشروعات التي تهدف كما قال لي في حديث خاص إلي الانطلاق خارج وادي النيل شمالا وشرقا في سيناء وجنوبا في توشكي. ففي الشمال تم استكمال تنفيذ مشروع استخدام مياه النيل في زراعة032 ألف فدان غرب قناة السويس ومساحات أخري في سيناء عن طريق ترعة السلام رقم2, التي استهدفت نقل مياه نهر النيل إلي غرب قناة السويس من خلال سحارات تحت القناة بما يضيف زراعة نحو004 ألف فدان, وفي الشمال أيضا قام بتنفيذ مشروع شمال غرب السويس يمتد علي مساحة003 مليون متر مربع كانت معظمها جبلية تم تسطيحها وقامت القوات المسلحة بإزالة مابها من ألغام. وكان مقررا أن تتسع هذه المنطقة لعشرات المشروعات الصناعية لكن لم تقم فيها سوي خمسة مشروعات, أربعة مصرية للسماد والسيراميك والحديد, بالإضافة إلي منطقة خاصة(2 كيلو متر مربع) يقيم عليها الصينيون عددا من المشروعات وفي الجنوب مشروع توشكي الذي وجهت له اتهامات كثيرة وتوقف رغم إتمام بنيته الأساسية وصرف نحو خمسة مليارات عليه, وفي الشرق مشروع شرق تفريعة بورسعيد لإقامة مشروعات خدمية تضم مستودعات لتخزين المنتجات البترولية ومحطات تموين للسفن والناقلات, ولم تتم الاستفادة بالمشروع حتي اليوم. وفي الغرب تم شق ترعتين بهدف زراعة المنطقة ومد سكك حديدية وأيضا توقف العمل في المشروع وامتلأت الترعتان بالرمال وسرقت قضبان السكك الحديدية. وهكذا عمليا تم إيقاف جميع مشروعات الجنزوري فور خروجه. مبارك: أيوه انت حتمشي ياكمال في يوم الخامس من اكتوبر99 ذهب مبارك إلي مجلس الشعب لافتتاح الدورة البرلمانية الجديدة. وفي صالون المجلس قبل أن يدخل مبارك القاعة سأله د. كمال الجنزوري إذا كان من المناسب ان تتقدم الحكومة باستقالتها فأجابه بسرعة: أيوه ما أنا حاعمل تغيير. سأله الجنزوري وأنا في التغيير؟ قال له مبارك: أيوه انت حتمشي! وحسب كلمات الجنزوري لي فإنه حمد الله في سره, فقد أصبح يشعر بأن علاقته مع مبارك تمثل عبئا علي الاثنين: علي مبارك وعلي الجنزوري. فمن ناحية مبارك كان قد اقتنع بأن الجنزوري له شعبية تزاحمه. ومن صفات مبارك التي أصبح من حوله يعرفونها شعوره بالضيق من أي واحد له ريق جماهيري, مما جعل المحيطين به يبعدون من يريدون لمجرد التلويح لمبارك بأن فلانا تتسلط الأضواء عليه. ومن يراجع كل الذين استمروا طويلا في مواقعهم يجد أنهم الشخصيات التي لم تكن لها جماهيرية أو ثقل. وبخروج كمال الجنزوري أسدلت عليه ستائر النسيان, وكان رئيس الوزراء الوحيد الذي لم يعين في منصب بعد خروجه, كما ظل سنوات طويلة مستبعدا من قائمة المدعوين لأي احتفال بعد أن نقل إلي مبارك أنه إذا دخل أي مكان يقابل بالتصفيق الشديد. وطوال11 سنة لم ينسب إليه أي حديث أو تصريح, إلي أن سقط نظام مبارك فشاهده المواطنون بعد غياب طويل في حديث مع المذيعة مني الشاذلي( باختصار من كتابي: الصعود والسقوط فصل رؤساء وزارات عهد مبارك) ge.gro.marha@tnomhalas المزيد من أعمدة صلاح منتصر