الحرية تلك الكلمة المكونة من ستة أحرف تبدو قليلة ولا تستغرق وقتا في النطق او الكتابة, ولكن الصعوبة تكمن في الوصول إليها, فهي كلمة تستحق ان نبذل في سبيلها كثيرا من العناء, وهي أيضا قمة جبل لكي تصل إليه لابد من المرور بطرق وعرة تطاردك فيها الوحوش وقطاع الطرق. فلم اعلم يوما أن أحدا وصل إليها أو نال شرف الحصول عليها إلا بعد ان تعثرت خطواته وتقطعت أوصاله ونهشت الوحوش والضباع من لحمه, فإما ان تصل إليها مهما كانت تكلفة الوصول, وإما ان تعيش تتجرع كأس الذل والهوان ويبقي لك ان تعيش بين رمز الكلمة او واقع معناها, كل شخص في هذه الحياة له خياراته, إما ان تستنشق الهواء النقي أعلي القمة وإما أن تموت بربو القاع. مقهي الحرية ذلك الرمز الذي يرتاده المصريون بحثا عن الحرية.. شباب من الجنسين, ومن مختلف الأعمار والجنسيات. البداية كانت في عام1936, حيث كان يوسف أفندي يعمل موظفا في شركة تقسيم الأراضي بالمعادي, أما قريبه مرقص ميخائيل, فكان يعمل محاسبا في شركة بيع أقمشة بالجملة يملكها الخواجة توليدا نو, يهودي الأصل, وكان أكثر ما يقلق يوسف ومرقص في ذلك الوقت هو قريب لهما يدعي نقولا, عاطل, وسبب للعائلة كثيرا من المشكلات والأزمات.. وبعد تفكير طويل استقرا علي إقامة مشروع تجاري برأس مال بسيط يدفعانه هما ويقوم نقولا بإدارته.. واستقر رأيهما علي إنشاء مقهي, واختارا محلا عنوانه:3 شارع مظلوم في باب اللوق, وافتتحا فيه ذلك المقهي وأسمياه مقهي الحرية, وكان رأس مال الشركة وقتها(350 جنيها) لم يسهم فيه نقولا سوي بالإدارة وبضعة جنيهات, وبدأ العمل بالمقهي في يونيو.1936 منطقة باب اللوق كانت خالية من السكان تقريبا في ذلك الوقت وميدانها كان يسمي ميدان الأزهار فهو أشبه بحديقة عامة لا يظهر فيها أو حولها إلا بعض الجنود الإنجليز وأفراد الجالية الأجنبية في مصر في هذا الوقت, ولذلك حقق المقهي خسائر فادحة في بداية افتتاحه نظرا لابتعاده عن العمران وحركة سير الناس في الشوارع, واستمر الحال هكذا حتي عام1942 ومع الحرب العالمية الثانية ازداد وجود القوات الإنجليزية وجنودها في مصر, وكانوا يفضلون مقهي وبار الحرية لعدم ارتفاع أسعاره وجودة مشروباته.. فشهد المقهي إقبالا وصار مكانا لتجمعهم.. وصارت تلك الشهرة الإنجليزية شهرة للمقهي فيما بعد بين أهل الطبقة الوسطي في ذلك الوقت, رجال الصناعة والتجارة وغيرهم فعرف الباشوات والبكوات ورجال الشرطة والجيش والفن طريقهم لمقهي الحرية. وخلال عام1943 كان المقهي يحقق مبيعات بمبلغ قدره200 جنيه يوميا.. والمقهي في عمارة مشيدة علي الطراز الإنجليزي مساحته حوالي350 مترا وارتفاعه5 أمتار, وبه أبواب ارتفاع الواحد منها3 أمتار, يبلغ ارتفاع الزجاج في كل باب منها2 متر, وإلي اليوم لم تتغير ملامحه كثيرا باستثناء اختفاء صالتين للعب البلياردو في بداية السبعينيات, حيث لم يقبل عليهما أحد وحل مكانهما كراسي وطاولات لتزداد مساحتهما داخل المقهي الذي لم يعد فيه ركن خاص, بعد رحيل معظم رواده القدامي من أمثال الشيخ زكريا احمد, والممثلين احمد رمزي ورشدي اباظة, وشكري سرحان, والدرملي باشا, والضباط الأحرار وبصفة خاصة الرئيس أنور السادات, وزكريا الحجاوي, ولاعبي الكرة عبدالكريم صقر ومختار التتش والمخرجين فطين عبد الوهاب وحسن الإمام. أما اليوم فتغيرت تركيبة رواد المقهي مثلها مثل أي شيء كان له تاريخ في مصر.. جلست علي طاولة ذات مقعدين بعد معاناة بسبب ازدحام المكان بالرواد, طلبت مشروبا من الساقي الموجود في المكان وهو شاب في الثلاثينات بشوش لا تغادر الابتسامة شفتيه, بسرعة البرق احضر المشروب, ولم نستغرق دقائق حتي دخل من باب المقهي رجل في الأربعينيات من عمره, استقبله الساقي بالسلام' أزيك يا معلم إبراهيم' ثم اصطحبه إلي الطاولة التي اجلس عليها ثم خاطبني قائلا: بعد إذنك ممكن يجلس إلي جوارك لان المكان مزدحم هذا اليوم, فأجبته: بالطبع' خليه يتفضل' ثم جلس جواري( المعلم إبراهيم) مقاول أعمال رخام اقترب مني وقال: مساء الخير يا بيه, أخوك فلان, فرددت عليه وأنا فلان الفلاني, الدنيا رايحة علي فين يا بيه ؟ اجبته' مش عارف'! قلت له ممكن أسالك انا سؤال يا عم إبراهيم ؟ قال: اتفضل... ماذا تعني لك الحرية وهل تبحث عنها ؟ قال أنا حر بالفعل ولكن كله بالأدب, الحرية ألا تعتدي علي حرية الآخرين, حق الطريق, فلا يجوز الاعتداء علي أملاك الدولة, فمثلا الأدوار المخالفة للمباني يسمونها حرية, الانتقام أصبح ناتجا عن الحالة التي نعيشها نعبر عنها بمخالفة القانون, وخوف الناس من المخالفين, أصبح ظاهرة عامة ومعظم الناس أصبحت لا تكترث بما يفعله الآخرون من جرائم أو تخريب, ومثال آخر عن حالة الفشل التي نعيشها اغتصاب أراضي الدولة, الذي يتم بشكل ممنهج, الفشل في الحياة هو سبب أساسي في ارتكاب تلك المخالفات, وهو في نفس الوقت تحريض للآخرين علي المخالفات, الحرية ليس معناها الانفلات, الحرية تعني الالتزام والاحترام, الحرية لها حرمتها وقدسيتها الحرية' إنسان'.. ليس مسلما أو مسيحيا, الإنسان لا يعتدي علي أملاك غيره. ويضيف.. المصري لا يستوعب الحرية, فمثلا التبول في الطريق العام, سلوك غير حضاري, قطع الطريق سلوك غير حضاري, السرقة بالإكراه سلوك غير حضاري, تخريب المنشآت العامة سلوك غير حضاري, وأمثلة كثيرة ليست من الحرية في شيء, صورة الإنسان يجب أن تنعكس من خلال تصرفاته القويمة, فأنا علي سبيل المثال يمكنني أن اعرف الذي أمامي من خلال نظرة واحدة' الدنيا علمتني كتير'.. وماذا تتمني للبلد ؟ أتمني أن يكون هناك حرية وهي في نظري تعني الرجولة والأمانة وهي تعني أيضا عدم الاعتداء علي أملاك الدولة أو الغير, وعدم التفرقة بين الناس هذا غني وهذا فقير, وان تكون إنسانا وتتعامل مع الأشياء بإنسانية والابتعاد عن كل المخالفات التي لا تغضب الله فقط ولكن تغضب البشر أيضا' وكل أول وله آخر' وأفضل شيء في الدنيا أن يترك الإنسان بصمة جيدة في الحياة لتذكره الناس بالخير بعد وفاته.