للعملات الأجنبية عادت للظهور بعد غياب طويل سوق سوداء ارتفعت فيها أسعار تلك العملات عن السوق الرسمية( الشرعية) ومع اتساع الفارق بين السعرين أثيرت فكرة إمكانية السماح بوجود سعرين للصرف أحدهما بالسوق الرسمية ويستخدم للمعاملات الرئيسية الخاصة بالسلع الأساسية والآخر بالسوق السوداء ويستخدم للسلع الأقل أهمية( مقال العالم الجليل محمود عبدالفضيل بالأهرام في27 مارس الماضي), ولكن وجود سعرين للصرف هو أمر تكتنفه عدة مشاكل وله أضرار جسيمة. أول هذه الأضرار هو انصراف الكثير من موارد النقد الأجنبي كإيرادات السياحة وتحويلات المصريين العاملين بالخارج عن السوق الرسمية وذهابها للسوق السوداء للاستفادة من السعر الأعلي بتلك السوق, الأمر الذي يعني زيادة شح موارد السوق الرسمية مما يؤدي بالتالي إلي المزيد من انخفاض سعر العملة الوطنية في الوقت الذي لا تؤدي زيادة موارد السوق السوداء بالضرورة إلي تحسن سعر الجنيه بتلك السوق نظرا لما تفيض به من مضاربات وتوقعات غير رشيدة وبدوره يؤدي انخفاض سعر الجنيه بكل من السوقين إلي ارتفاع أسعار السلع المستوردة مما يفاقم من مشكلة التضخم, وقد يؤدي انخفاض موارد السوق الأساسية من العملات الأجنبية إلي تأخر استجابة البنوك لطلبات الاستيراد التي يقدمها العملاء انتظارا لتوافر الموارد من تلك العملات وهو ما يقود غالبا لأزمات في السلع الحيوية مثلما هو حادث حاليا في الأزمات المتكررة للوقود. وفي مقابل الصعوبات التي يواجهها استيراد السلع الأساسية فإن شراء العملات الأجنبية بغرض استيراد سلع غير أساسية أو المضاربة أو الاكتناز لتحقيق مكاسب رأسمالية يصبح أكثر سهولة ويسرا نظرا لتوافر المزيد من العملات الأجنبية بالسوق السوداء بعد تحول بعض الموارد إليها وهو ما يشجع علي المزيد من مثل تلك المعاملات التي لا تضيف شيئأ للاقتصاد بل تخصم من قدراته علي توفير السلع الأساسية واستقرار الأسعار, كما أن تزايد موارد السوق السوداء يزيد قدرة تلك السوق علي الاستجابة لطلبات الشراء لتمويل عمليات غير شرعية كتجارة المخدرات وخروج رءوس أموال إلي الخارج غير تلك المصرح لها بالخروج. وتجدر الإشارة إلي أن أهداف وأسلوب تطبيق سعر الصرف المزدوج الذي اقترحه الاقتصادي الشهير نيكولاس كالدور عام1964 تختلف تماما عن مثيلتها في الحالة المصرية الحالية فالهدف من اقتراح كالدور هو جعل صادرات السلع المصنعة بواسطة الدول الأقل نموا أكثر تنافسية في الأسواق الخارجية بتخفيض سعرها بتلك الأسواق عن طريق تخفيض قيمة العملة المحلية دون أن يمتد أثر ذلك التخفيض إلي كل السلع الداخلة في التجارة الخارجية بل بعضها فقط حيث يطبق السعر المخفض علي السلع المصنعة المصدرة فتنخفض أسعارها خارجيا بالإضافة إلي بعض السلع المستوردة غير الأساسية فترتفع أسعارها داخليا بينما يظل السعر الرسمي مطبقا علي باقي السلع المصدرة والمستوردة, بينما في الوضع المصري فإن الازدواج الحالي لسعر الصرف ليس مصمما لتشجيع صادرات السلع المصنعة بل نشأ لقلة موارد السوق الرسمية واستمراره لا يجعل تطبيق السعر المخفض انتقائيا بحسب رغبة السلطات بل يفتح باب السوق السوداء ليس فقط أمام السلع المصنعة المرغوب في زيادة صادراتها والسلع غير الضرورية بل أيضا أمام إيرادات جميع الصادرات من السلع والخدمات باستثناء السيادية منها كدخل قناة السويس والبترول مما يناقض الهدف الذي سعي إليه كالدور ومن ناحية أخري فإن آلية التطبيق في مقترح كالدور هي عن طريق وجود مجمعين للنقد أحدهما سعره محدد بواسطة السلطات وآخر سعره حر تجري به المعاملات عن طريق القنوات الرسمية, فطلبات الاستيراد التي لا تستوفي شروط المعاملة بالسعر الرسمي يطبق عليها السعر الحر ويمكن للسلطة النقدية التأثير علي ذلك السعر بتعديل المعاملات التي تتم علي أساسه بينما المجمع الآخر للنقد الأجنبي القائم حاليا بمصر هو سوق سوداء غير خاضعة لأي نوع من السيطرة الرسمية وما يجري به مجهول بدرجة كبيرة من حيث حجمها الحقيقي وطبيعة المعاملات التي تتم بها. وهذا الجهل بحجم وطبيعة السوق السوداء للنقد الأجنبي يعني عدم اكتمال بيانات النقد الأجنبي علي المستوي الكلي وتعتمد تقديراتها علي بعض المؤشرات التي يمكن الاسترشاد بها كحجم الاستيراد أو التحويلات للخارج ولكنها مؤشرات غير كافية وتبني تقديراتها علي قدر كبير من التخمين مما يجعل صورة سوق النقد الأجنبي غير كاملة مما يجعل اتخاذ القرارات المتعلقة بالنقد الأجنبي أكثر صعوبة, ومع اتساع التعامل بالسوق السوداء يفقد سعر السوق الرسمية تدريجيا وظيفته كسعر مرجعي ليحل محله سعر السوق السوداء ليستخدم ذلك الأخير ليس فقط في ترجمة أسعار السلع والخدمات من العملات الأجنبية إلي العملة المحلية وبالعكس بل قد يستخدم أحيانا من قبل المستثمرين في إعداد دراسات جدوي المشروعات ومن قبل المؤسسات المالية العالمية في حساب أرقام الحسابات القومية. وعليه فإن حل المشكلة الحالية لسعر الصرف لن يتأتي بالإقرار بالسوق السوداء للعملات الأجنبية بل بالقضاء علي الأسباب التي أدت لظهورها. لمزيد من مقالات جمال وجدى