يومان, ويسدل الستار علي فعاليات مهرجان إسطنبول السينمائي, والتي بدأت قبل أسبوعين, وفي اعتقاد كاتب تلك السطور, لن ينسي رواده بعض الشرائط لما حملته من صرخات مدوية من بشر, ولايتوقع أن تنتهي معاناتهم علي الأقل في المستقبل المنظور, فقد كانوا يتخيلون وهذا فحوي فيلم المساعدة القاتلة بعد أنهار الدموع التي انسابت تعاطفا لحالهم ولوعة علي الآلاف الذين فقدوا حياتهم في احدي كوارث القدر, أنهم أخيرا وجدوا المدد من أقرانهم في الانسانية, ولكن سرعان ما يكتشفون زيفها, وانها فقط كانت أمام الكاميرات وكي يسترزق المصورون وتجد شاشات التلفاز مواد تحشرها حشرا لاستهلاك الوقت. في المقابل كانت هناك ولعلها مستمرة حتي الآن وهي كذلك حتما مأساة أخري مروعة ولكنها من صنع مجتمعات في يدها السطوة والنفوذ فمن أجل المزيد من الثراء الذي هو في الاصل فاحش, جسدها شريط المزيد من العسل, فلا يهم اذن تدمير الطبيعة بفعل الانسان نفسه, ولتدمير أخيه, والأهم الإخلال بسنن الكون واختراق قواعده. غير أن القائمين علي احتفالية اسطنبول لن يتركوا جمهورهم فريسة للهم واليأس, بيد أنهم سيتيحون لهم تنويعات تنشد الأمل للجميع, وذلك بعرض أعمال هي أشبه بالسيمفونيات الموسيقية, ولكن بلغة سينمائية, الكاميرا هي سيدة الموقف, من خلال عملين وبالأحري مقطوعتين, في غاية الروعة والابتكار, إنها باختصار جزء من ارهاصات سينما تسجيلية في ظني كانت احدي مفاجآت المهرجان في دورته الثانية والثلاثين. من هاييتي المنكوبة, وما أن دمرها زلزالها المروع قبل ثلاثة أعوام, كادت قلوب الغرب الاوروبي والأمريكي علي السواء إضافة إلي قلب عربي شرقي ألا وهو قطر, أن تنفطر من فرط ما شاهدته من صور تقطر دما, وها هم رجال المال وسيدات الصالونات ومعهم ممثلو منظمات أممية ومدنية يسرعون يتفقدون مواقع الكارثة, ويسرد الشريط المعنونfatalassistance وبالتركيةlmclYardm, المساعدة القاتلة للمخرج الهاييتيRaoulPeck الذي كان واحدا من اعضاء اللجنة الرئيسية لمهرجان كان مايو الماضي, وعود الغرب ومؤسساته والتي لو جمعت لدشنوا بلدا جديدا وهو ما لم يحدث, فما فائدة تأثر نيكولاي ساركوزي لدرجة كادت دموعه تنساب من هول الفجيعة ؟ والدليل أنه علي مستوي الفعل فلا شيء. ولتظل هاييتي مسكونة بالموت والعذاب, هذا هو حالها منذ قرون عندما استباحها الغرب في إبادة واغتصاب وتنكيل, ويكفي للتدليل علي ذلك أن نعود إلي الروائية التشيلية إيزابيل الليندي ورواياتيها أنيس حبيبة روحيInsdelalmama التي تعود أحداثها إلي القرن السادس عشر, وجزيرة تحت الاعماق بأحداثها في القرن الثامن عشر نعم ارادوا التكفير عن ذنوبهم ولكن فقط بالكلام الذي قد يكون مرادفا للقتل مادام ظل مليون ونصف المليون في الخلاء وبرغم ذلك وجدنا في الشريط وهو من إنتاج فرنسي هاييتي امريكي بلجيكي, أن الهاييتيين مازالوا ينشدون حياة يسحتقونها فيلجأون إلي ثقافتهم ورقصاتهم تراكين دموع الاممالمتحدة والمنظمات الخيرية تنساب دون توقف! كان هذا قدرا لا دخل للمرء فيه, لكن في فيلم' المزيد من العسلMORETHANHONEY, وهو عنوان شاركت ثلاث بلدان في إنتاجه وهم المانيا والنمسا وسويسرا وإخرجهMarkusmhoof ومحتواه ينطلق من نبوءة ألبرت أينشتاين النحل سيمضي. للوهلة الاولي ربما تبادر إلي الذهن أننا أمام توثيق لأماكن تبدو ساحرة فالمشاهد التي تتالت في المقدمة كم هي خلابة, من وديان تغمرها خضرة لا نهائية وصرير جداول مياه أضفت زخما بديعا آخر وسفوح جبال اكتست بالثلج الابيض, ونري وجوها قليلة لا تتعدي اصابع اليد الواحدة, فرغم تقدمها في السن إلا أن الوهن لم يصبها. وفجأة يعكر المشهد دخان سيجار لا يبرح شفاه العجوز صاحب مزرعة لإنتاج العسل الخام واستعدادات تجري لاستخدام مبيدات ثم إضافات هائلة من المواد الحافظة الفورمالين, لتبدأ رحلة الانتقال الطويلة من القارة العجوز, إلي كاليفورنيا, عبر طيران أمريكي شهير, ثم تريللات ضخمة تقطع أربعة الالف كيلو متر لنصل إلي قمة الفاجعة خلايا النحل صارت مثل الفحم وتدريجيا تظهر قسوة اصحاب المزارع الذين لا يألون جهدا فقد وجدوا طرائق سريعة ومثمرة تضخ ملايين الدولارات بتواطؤ من أجهزة محلية تغض الطرف عن كم الجرائم التي ترتكب ليس في حق البشر فحسب بل في تدمير الكون وهدر الطبيعة واستنزافها, بشاعة من نوع اخر البطل فيها المضادات الحيوية والمعالجات الكيماوية, فألا يدعو هذا إلي القلق ؟ أو لم يحن الوقت لتدارك الأمر ووقف هذا الخطر الماحق ؟ أسئلة لا تبدو أن إجاباتها حاضرة. والآن هل من مخرج ينتشل المتلقي من تلك القتامة, هنا يتحفنا القائمون علي المهرجان بعوالم نغم من الماضي ولكن بعيون حاضر ضجر من الجحود, وبات تواقا للرومانسية التي افتقدها, وهكذا جاءت التنويعة الفرنسيةTravtataetNoys( ترافياتا ونحن) والتي صاغها سينمائياPhilippeBziat وتحكي عن محظية فيردي المأساوية وادتها السبرانو الشهيرةNathalieDessay وحبها المستحيل وقد ادي الدورJeanFranoisSivadier. أن جمال النص السينمائي في نظري هو أنه اعاد التذكير بروعة موسيقي الايطالي جوزيبي فيردي(1813 1901) حصره الكثيرون في أوبرا عايدة برغم انها الأضعف لا لسبب سوي إنها كتبت بناء علي تكليف من خديو مصر آنذاك إسماعيل, غير أن فيردي, وعندما ترك العنان لخوالجه, انطلقت ابداعاته الغزيرة ومنها كانت الحان لا ترافياتا, حيث الشجن والحب والفراق, وها هم المفسرون ومنهم مخرج هذا الفيلم لا يتوقفون عن قراءتها وعزفها كل حسب أحساسه بها. مقطوعة أخري مفعمة بالاثارة أعادت بيتر بروك المسرحي الانجليزي المخضرم إلي عشاقه الذين طال انتظارهم له, وها هم يرونه أكثر حيوية برغم عمره الثامن والثمانين, فتحت اسم' الحبل أو الخيط'THETIGHTROPE يقدم سيمون بروك الابن, فلسفة أبيه والتي تتمحور حول العزف علي نغمة الحياة تارة وتشجيع الفرد علي الثقة في نفسه, والحبل المشدود ما هو الا انغماس كلي في عملية ابداعية فريدة وشديدة الخصوصية.