عندما ظهر علي شاشة التليفزيون مؤديا التحية العسكرية خلال ترديد النشيد الوطني, كان لقطة في مشهد أكبر وأكثر حضارية, هو أداء المنصف المرزوقي اليمين أمام الجمعية التأسيسية كأول رئيس لتونس الديمقراطية مهد الربيع العربي. لم يختزل المشهد و لم يكن اللقطة الأهم, وهذا هو سر عظمة المشهد والرجل الذي كان بمقدوره أن يخطف الكاميرا ويجتذب الأضواء باعتباره الرجل القوي, لكن الجنرال رشيد بن عمار رئيس الأركان التونسي بدا متواضعا غير باحث عن تلميع أو راغبا في إثبات أنه الأقوي. اختار الجنرال أن ينأي بنفسه وبالجيش عن السياسة, وأن يبقيا علي الحياد ولا يقفزان إلي كراسي السلطة, ولم يحاول منذ انتصار الثورة التونسية قبل عام أن يتصدر المشهد عبر قرارات فوقية, وكان يمكنه أن يستغل الامتنان الشعبي لدور الجيش خلال تلك الأيام في تحقيق مآربه, كما أن مقاليد الأمور كانت عمليا في يديه. بل إن عمار كان له ثأر شخصي من الرئيس الهارب بن علي الذي وضعه قيد الإقامة الجبرية بعد أبلغه بالحقيقة المرة قائلا: لقد انتهيت يا بن علي, لكنه تمكن من العودة وحاصرت دباباته القصر الرئاسي وأجبرت بن علي علي الهروب,. أي أن الجنرال صاحب الوجه الباسم والكاريزما, كان له دور رئيسي في الثورة يمكن أن يتكيء عليه لبلوغ طموح يراود أمثاله من الجنرالات العرب والعالم الثالث, وهو الوصول إلي سدة الرئاسة. إلا أنه بدلا من ذلك, حرص علي أن تسير البلاد في طريق الديمقراطية, وأن يكون الجيش أداة لتحقيق ذلك وليس عائقا أو مشاكسا. وهو لم يفكر في أن يخلق مؤسسة موازية أو بديلة عن مؤسسة الحكم الشرعية, ولم يتدخل لإحداث توازن بين اليمين واليسار أو بين الإسلاميين والليبراليين, لأنه يعتقد أن الأمر ليس من شأنه. أيضا لم يضبطه الإعلام هو أو أحد من رجاله يتحدث في شأن سياسي. كان التونسيون يزدادون اقتناعا بأن الجيش هو حارس التجربة وراعيها وليس العمدة, وأن الجنرال مصمم علي أن يقدم نموذجا مفاده أن السياسة ليست ملعب الجيش, وأن أفضل خدمة يمكن أن تقدمها العسكرتاريا هي حماية حدود الوطن وترك السياسة لأصحابها يتنازعون فيما بينهم, ويقررون ما يشاءون دون وصاية من الجيش حتي ولو تصريحا وليس فعلا. أدعو الله أن يواصل الجنرال رشيد بن عمار طريقه بعيدا عن إغراء السلطة وألا يستجيب لنداء بعض ضعاف النفوس من السياسيين الذين يسارعون باللجوء إلي الجيش كلما خسروا الشارع, كما أدعو الله أن يحذو كل الجنرالات العرب حذوه. إنه سميع مجيب. المزيد من أعمدة عبدالله عبدالسلام