طالبني الكثيرون, في سياقات مختلفة, بإلقاء الضوء الكاشف علي حقيقة الدور الذي لعبته قناة التنوير الثقافية, والأسباب الحقيقية لإغلاقها, وكنت ومازلت لا أتحمس حماسا كبيرا لهذا الحديث, لأنني ممن يحبون النظر إلي المستقبل ومقتضياته, وكيفيات التغيير وأدواته.. لا التلبث عند الماضي, والبكاء علي اللبن المسكوب.. ولعل رأي البعض في الاعتبار بالماضي من أجل المستقبل, هو ما حفزني ويحفزني أحيانا إلي التوقف عند جانب أو آخر من جوانب (قصة قناة التنوير) لما أراه من فائدة تتغيا إصلاح الحاضر من أجل تطوير المستقبل.. ومن ثم, فحديثي هنا عن التنوير, يتقصد بالدرجة الأولي.. الكشف من خلال التجربة العملية عن أبعاد تلك العلاقة الشائكة الملتهبة, التي تتحرك دائما علي سطح صفيح ساخن بين الثقافة والإعلام من ناحية, والسلطات الدكتاتورية القائمة.. هذا هو الهدف الأساسي, وليس حكاية قناة التنوير, التي سيأتي وقتها كاملا في سياق آخر وظرف مختلف!. العلاقة بين الثقافة والإعلام من ناحية, وبين الأنظمة الدكتاتورية من ناحية أخري كما هو معروف علي مدي التاريخ علاقة آثمة باستمرار.. يتحول فيها الإعلام إلي جهاز للدعاية الفجة للنظام الفاسد, وتتحول فيها الثقافة إلي دغدغة رخيصة له, وإلا تم نفيها ومصادرتها وإطلاق مسدس جوبلز بالفعل, وليس الاكتفاء بوضع اليد علي المسدس عند الاستماع إلي كلمة ثقافة!.. المهم, توليت في مثل هذه الظروف إنشاء قناة التنوير ورئاستها لمدة عشر سنوات تقريبا (19982008) ظللت ألعب خلالها لعبة القط والفأر مع السلطات المسئولة في التليفزيون, والقيادات المتتابعة بقطاع المتخصصة دفاعا عن بقاء القناة واستمرارها في أداء دورها التنويري الحق, بل لكل صاحب اجتهاد ورؤية ورأي, الحق في الحضور و المثول علي شاشة التنوير, لا نطالبه إلا بأن يقدم لرأيه من الحيثيات والبراهين العقلية والتراتبات المنطقية ما يعطي لرأيه القوة والمصداقية والقدرة علي الصمود لاعتراضات الآخرين, التي كنا نشترط أن تمتلك أيضا قوة الحجة, وجلاء الناصية, ونصاعة الفكرة وبراهينها, وبالتالي استطعنا أن ندير أصدق وأجرأ وأوضح الحوارات التي تمت في شأن الوطن وقضاياه الملحة في هذه الفترة, وكان معظمها مما لا ترضي عنه السلطات القائمة. وأدرك المسئولون ذلك بوضوح, ومن ثم بدأت الحرب الخفية والمعلنة علي التنوير.. بالتضييق الهائل عليها في كل تفاصيل العمل الضرورية, ما يجعل المقارنة بين التنوير وغيرها.. غير جائزة ولا ممكنة أصلا, وذلك ببساطة, لأن (القنوات الأخري) في معالجتها للشأن الثقافي.. كانت تمثل هذا النوع من الأداء التليفزيوني الثقافي (البراني) الذي يبتعد باستمرار عن (المشاكل) ويقف من الثقافة.. يا إما عند ما تريده السلطات القائمة بالضبط.. من ثقافة (منزوعة) الدسم, إذا جاز التعبير, ثقافة القشور والمظاهر والبهرجات والمهرجانات. لا أريد أن تستغرقني التفاصيل, و هي كثيرة وبالغة الدلالة, ولعلنا نعرض لكل ذلك في سياقات أخري, المهم, أن هذه الروح تعاملت مع مواضع التنوير (بجد) كمفهوم عقلاني ونقدي مستنير فعلا, يقدم الصورة كاملة بمصداقية تامة وبلا كذب ولا تجميل ولا تمويه, ويتعامل مع الحقائق بلا مواربة, ولا أقنعة, ولا تزييف, لا يخدع الناس عن أنفسهم وعن وطنهم وعن حياتهم, وعن مآزق اللحظة التاريخية التي يكابدونها علي كل الأصعدة, السياسي منها والاجتماعي والثقافي والفكري والاقتصادي والعلمي.. إلخ. إن العلاقة بين الثقافة والإعلام من ناحية والسلطة من ناحية أخري عبر هذا النموذج الحي (التنوير).. كانت علاقة بائسة, تحاول فيها السلطة باستمرار أن تخضع (التنوير/ الثقافة) لزيفها وكذبها وتمويهها علي الناس وأبت (التنوير) أن تخضع لهذا الابتزاز السلطوي الجائر, واختارت ان تقوم بدورها حتي تم إغلاقها بالكامل علي أيدي أنس الفقي وأحمد أنيس وأسامة الشيخ, وهذا حديث آخر علي أي حال.. ولتكون هذه هي المرة الأولي ونرجو أن تكون الأخيرة في تاريخ الإعلام المصري, التي تفتح فيها قناة تليفزيونية كبيرة, تبث علي الفضاء الواسع للعالم كله, وليس العالم العربي أو مصر وحدها, وتستمر لمدة عشر سنوات في لعب دورها التثقيفي والتنويري الحر والأمين والصادق, وتحوز أرضية واسعة ومحترمة عند قطاعات كبيرة وعديدة من الشعبين المصري والعربي, ويتم إغلاقها في النهاية كعنوان متجسد لممالأة الإعلام المنبطح للسلطة السياسية القائمة, وخيانة الرسالة الإعلامية الشريفة, والسير ضد مصالح الناس (بفلوس الناس) ولكن هل كانت عدالة السماء بعيدة عن هؤلاء الخونة جميعا؟!!. المزيد من مقالات ماجد يوسف