لا تتوقف عجائب مصر والمصريين.. أسبوع واحد فقط بين الانتخابات البرلمانية والإعادة جسد كل المتناقضات.. من إقبال مذهل إلي إهمال مؤسف.. ومن اختفاء للتزوير والبلطجة إلي ظهور مكثف للاثنين معا ولم يكن هناك مبرر لهذا التناقض سوي أنها إحدي عجائب مصر لتضاف إلي عجائب الثورة حيث نجح الشباب المصري في الثورة ضد حاكم فاسد ونظام أشد فسادا وقدم الروح والدم ومعهما حبات العيون من أجل مصر جديدة تعرف الديمقراطية والحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية..ولكن هذا الشباب الذي دفع ثمن نجاح الثورة لم يحقق ما تمناه لأن غيرهم من تجار وسماسرة ثورات الشعوب والسياسيين البارعين هم الذين قطفوا ثمار الثورة حتي الآن... وغدا نستقبل المرحلة الثانية للانتخابات البرلمانية التي سعد البعض وصدم البعض الآخر من نتائج مرحلتها الأولي حيث يجب أن نسأل بصراحة- وبعيدا عن القبول أو الرفض للتيار الذي تفوق في هذه الانتخابات- هل نتائج هذه الانتخابات تبشر بتحقيق أحلام الثورة في مستقبل جديد؟! وإذا كان مشهد طوابير المصريين التي امتدت بالكيلومترات من أجل المشاركة الانتخابية في الجولة الأولي يدعو للزهو والبهجة فإن مشهد اللجان الخاوية واتهامات التزوير وظهور البلطجية في جولة الإعادة يدعو للخجل والأسي.. ومع ذلك فإن الحضور والمشاركة لا يكفيان لتحقيق الديمقراطية التي لا تكون بطول الطابور أمام الصندوق الانتخابي بقدر ما تكون بضمانات الطريق للوصول إلي هذا الصندوق.. وإذا كان قطار الانتخابات البرلمانية قد تحرك بسرعة مرة وببطء مرة أخري فإن الأهم هو أن يكمل رحلته بنجاح- بصرف النظر عن النتائج- حتي محطة الوصول النهائية في ظل مخاوف من المشهد الحالي الذي يوحي بأن نري من عجائب مصر الكثير, فنحن أمام تحالفات تعلن ثم تنفك وشخصيات تتصدر المشهد دون أي مبرر ونهر من المال يتدفق في الشارع السياسي دون أن نعرف مصدرا لهذا المال, وقنوات فضائية تنطلق وصحف خاصة تصدر وكلها ينزف خسائر مادية بملايين الجنيهات دون أن يشعر أصحاب المال بالقلق من هذه الخسائر مما يثير الشك في مصادر هذا المال وللأسف إذا كانت مصر قبل الثورة قد تحملت عواقب ظاهرة الزواج الباطل بين السياسة ورأس المال وما ترتب عليها من فساد فإنها تواجه أو بمعني أدق لا تواجه اليوم ما هو أسوأ.. وهو كارثة الزواج العرفي الباطل والفاسد بين الإعلام ورأس المال الذي لا نعرف مصدره, والأخطر أننا لا ندرك أهدافه أو ربما هناك من يدركها ويتغافل عنها لسبب لا نعلمه في ظل هذا الجو الملبد بالشكوك ورغم ما يقال عن نزاهة صندوق الانتخابات في المرحلة الأولي فإن نتائجه التي أسفرت عن سيطرة تيار واحد علي البرلمان تدعو للقلق حيث كان الأمل هو انتخاب مجلس متوازن لا تسيطر فيه أغلبية كاسحة, خاصة أن المجلس القادم هو الأخطر في تاريخ مصر لدوره المؤثر في وضع مشروع دستور مصر ما بعد ثورة 25 يناير..وهناك بواعث أخري للقلق في ظل ما نراه من مظاهر كثيرة تدعو للشك في سلامة الطريق الذي يسير عليه الناخب المصري حتي يصل إلي صندوق الانتخابات وهو الطريق الذي يبدأ من كل ما يرتبط بحياته وصولا إلي لجنته الانتخابية قبل أن يضع ورقة الانتخابات في الصندوق فعلي طول هذا الطريق يتعرض المواطن لكل الإغراءات والتهديدات وسيف المعز وذهبه وهنا تبدو خطورة دور وتأثير الزواج الباطل بين الإعلام ورأس المال والذي يفترس عقول الناخبين سواء بدعاوي الدين والتدين وأبواب الجنة المفتوحة أمام تيار الإسلام السياسي الذي يملك مفاتيح هذه الجنة ويفتحها لمن يعطيه صوته الانتخابي والتحذير من النار التي سوف يحترق بنارها كل من يعطي التيار الآخر أو بأوهام المستقبل الوردي بالرخاء والأمن والرفاهية وكلها خلال أيام من نجاح المرشح الهمام, ولاحظ أننا نتحدث عن ناخب في دولة نصف عدد سكانها- إن لم يكن أكثر من ذلك- يعيشون في ظلام الأمية والجهل ومازالت ورقة الانتخابات المصرية- ويا للخجل- تحمل رسوما إيضاحية كرموز لمعاونة الناخبين في اكتشاف المرشح الذي يريدونه لأنهم- بسبب الأمية- لا يستطيعون قراءة اسمه وليس أمامهم من سبيل لمعرفته سوي برمزه المرسوم فانوسا أو شمعة أو سيفا أو دبابة!!ومن هنا فإن أي توقعات ببرلمان يعبر عن الثورة ليست أكثر من تفاؤل غير مبرر.. فالبرلمان القادم لا علاقة له بالثورة من قريب أو بعيد, وإذا تصدرته قوي تحالف تيار الإسلام السياسي بكل درجاته فإن هذا هو حقها لأن هذا التيار الإسلامي كان الأكثر استعدادا وتنظيما وتجربة وقدرة علي الوصول للشوارع الخلفية في مدن وقري مصر وإلي جانب تيار الإسلام السياسي فإن البرلمان الجديد بفعل وقوة ونفوذ وسطوة المال وحشد العصبيات والأسر المسيطرة علي دوائر بعينها سوف يضم أيضا العديد من الوجوه القديمة من الذين يطلق عليهم اسم الفلول وأمامنا شواهد كثيرة تبشر أو تنذر بذلك في مقدمتها تلك الجرأة غير العادية التي يتعامل بها هؤلاء الفلول مع المجتمع ومع قوي الثورة والتي وصلت إلي حد قيام واحد من زعماء هذه الفلول بتهديد الدولة بإفساد الانتخابات بأكملها لو تم استبعادهم من الحياة السياسية وهو ما جعل قانون العزل السياسي يتعثر ويتعذر صدوره حتي صدر قبل ساعات من بدء الانتخابات بعد أن تم تفريغ مضمونه من أي قدرة حقيقية علي عزل هذه الفلول بل ودون آلية جادة لتنفيذه.. وإذا كان البرلمان القادم ليس هو برلمان الميدان الذي اندلعت منه شرارة الثورة فإنه في ذلك لا يختلف عن الوزارة الحالية التي جاءت بعد وزارة شرف بعقلية التاجر المفلس الذي يفتش في الدفاتر القديمة بحثا عمن ينقذه فجاءت وزارة للإنقاذ يرأسها الدكتور الجنزوري الذي يحتاج ووزارته إلي من ينقذه وكأن مصر لم تعد ولادة كما كانت توصف دائما.. فمن عجائب مصر أن الشباب الذي ثار ولم يلمس نتائج هذه الثورة فوجئ بأن الذين تقدموا للقيادة هم أعجز من دولة العواجيز التي طالبها بالرحيل الرائع الشاعر الخال عبد الرحمن الأبنودي ولكن هؤلاء العواجيز لم يرحلوا كما طالبهم الخال الأبنودي بل زادت قوتهم في الاستمساك بكل شيء واستمروا يتعاملون بنفس طريقتهم القديمة مع الأحداث وبصرف النظر عن سنوات العمر التي لها كل التوقير ولا يليق الحديث عن كبر السن إلا عندما تؤثر سنوات العمر علي القدرة الذهنية والنفسية وعلي ملاحقة المتغيرات الجديدة حيث يصبح القلق مشروعا والحديث عن السن وتقدمها له ما يبرره.. وأمامنا كمثال ووسيلة إيضاح لذلك حالة الدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء الجديد, وهنا لن نتحدث عن سن الدكتور الجنزوري- وله كل الاحترام- ولن نتحدث عن غيابه التام عن الحياة المصرية سنوات طويلة جعلت جيلا كاملا من شباب مصر لا يعرف عنه شيئا ولكن نتحدث عن القدرة الذهنية والخيال والعقلية التي تعامل بها رئيس الوزراء القديم الجديد مع تكليفه للوزارة.. فقد تعامل بنفس طريقة زمان فلم يهتم لحظة بأن يقدم نفسه للشعب المصري بعد تكليفه بالوزارة وتعامل بنفس عقلية عام 1990 فلم ينتبه مثلا إلي أنه قادم- بالنسبة لجيل بأكمله- من المجهول إلي قيادة وطن بعد ثورة شعبية قام بها الشباب وأنه جاء بشعار حكومة إنقاذ, وعلي ذلك فإن عليه أن يقدم ما يفيد أنه شخصيا قد تغيرت أفكاره وتطورت فيناقش علانية جيلا جديدا لا يعرفه ولا يكفي هنا أن يلتقي في الكواليس مع بعض الشباب.. وكان مطالبا أمام الأجيال التي عاصرته أن يشرح ويفسر سر اختفائه وصمته الرهيب طوال السنوات الماضية ولماذا قبل راضيا أن يعامل بما تمت معاملته به؟ وأن يحسم الخلاف حول ما يتردد عن خلافاته مع الرئيس المخلوع وما يتردد بعكس ذلك من أنه كان في خدمة المخلوع وابنه بل وأنه عين هذا الابن في موقع أتاح له السيطرة علي بنوك مصر, وعن معايير اختياره لحكومته وعن حقيقة مشروعاته العملاقة وخسائرها وغير ذلك ولكنه بدأ من حيث توقف قبل عشرين عاما وكأن الزمن قد تجمد عند هذا التاريخ بل إنه اختار لمشاوراته الوزارية نفس المكان الذي شكل فيه وزارته قبل 15 عاما وهو معهد التخطيط!! وهنا يجوز أن نتذكر أوائل عام 2000 حين صدم الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل الرأي العام المصري بتعبيره الشهير نحن أمام سلطة شاخت فوق مقاعدها وأظنه لم يكن يتخيل وقتها أنه في يوم ما سنكون أمام سلطة شاخت في منازلها ومع ذلك يجري استدعاؤها لقيادة الوطن بحكومة إنقاذ بعد ثورة قام بها الشباب... لكن هذه هي مصر وهذه إحدي عجائب مصر! المزيد من مقالات لبيب السباعى