كثير من الناقدين للحالة السياسية في مصر يرونها غير ديموقراطية وذات أفق مسدود, وكثيرا ما يلومون النظام العام بالوقوف أمام حركة الناس ورغبتهم في المشاركة وفي إحداث التغيير السلمي. وكثير أيضا ما يعتبرون الوقفات الاحتجاجية لعمال بعض الشركات للحصول علي حقوق معلقة لهم دليلا علي عطب اجتماعي وسياسي في آن. وإعمالا للحرية في القول والتنظير السياسي فمن الممكن قبول هذا القدر من اللوم شريطة أن يوضع في حجمه الحقيقي من ناحية, وأن ينظر إليه في إطار أوسع يضم حركة المجتمع ككل من ناحية أخري. إذ إن اللوم والنقد والمعارضة ليست وحدها في الميدان, فهناك من يري وهم كثيرون أيضا أن النظام العام يعمل بكفاءة نسبية, وأن المطلوب زيادة كفاءته أو إصلاحه بتدرج, ووفقا لقدر الاستيعاب المجتمعي العام لخطوات الاصلاح, وذلك حتي لا تحدث هزة أكبر مما يمكن تحمله. وليس هناك شك في أن طموح المصريين لنظام ديموقراطي هو طموح أصيل ومشروع, وهذا الكثير من اللوم والنظرة التشاؤمية بالمطلق تقابلها نظرة أخري لا تنكر الأخطاء والثغرات وأوجه القصور في أكثر من مجال وقطاع, وتطالب بقدر من العقلانية في الحكم علي الأمور. فما يحدث في مصر ليس كله سوادا كما أنه ليس كله بياضا, والمهم أن يكون هناك قدر من التفاؤل المشروع والنقد الايجابي. وحتي لا يكون الحديث نظريا مجردا, دعونا ننظر إلي حالة الشارع السياسي المصري الراهنة, فثمة قدر من السخونة والحراك السلمي الذي يتم تحت سقف القانون والدستور, وهو ما يحسب لهما, مع الاعتراف بالطبع أن هناك من يطالب بتعديلات دستورية لعدد من المواد لاسيما المادتين76 و77, المتعلقتين بشروط الترشح للانتخابات الرئاسية لاسيما للمستقلين. وهناك أيضا من يطالب بوقف العمل بالدستور الحالي باعتباره دستورا جامدا وبه الكثير من المواد المعيبة, ويدعو إلي تشكيل جمعية وطنية لصياغة دستور جديد يكون اكثر انفتاحا وليبرالية وحرية. والفارق هنا بين هذين الموقفين هو الفارق نفسه بين من يعمل في إطار النظام ومن يسعي إلي تغيير كلي لهذا النظام. كما أن هناك موقفا ثالثا يري أن تعديل الدستور بين الحين والآخر يخلط الأمور وينزع الهيبة عن هذه الوثيقة الرئيسية التي تحدد السلطات وتصوغ العلاقة بين الحاكم والمحكوم, وأن التعديلات الأخيرة التي حدثت في العامين2005 و2006 بحاجة إلي أن تختبر عمليا في الانتخابات المقبلة سواء البرلمانية نهاية العام الحالي والرئاسية نهاية العام المقبل. وتبدو سخونة الشارع السياسي المصري واضحة للعيان, سواء علي صعيد الشعارات المرفوعة أو بشأن التحركات الفعلية للقوي السياسية المختلفة الحزبية منها وغير الحزبية. والجزء الأكبر من الشعارات والمطالب المرفوعة حاليا ليس جديدا في حد ذاته, فهو موجود ومكرر في الساحة السياسية منذ أكثر من عقدين, ويتضمن ذلك شعارات الاصلاح الدستوري الشامل أو الجزئي, والمطالبة بضمانات أكبر لنزاهة الانتخابات والاشراف القضائي ورقابة المجتمع المدني ومجال أوسع في تشكيل الأحزاب دون وصاية من لجنة الأحزاب, ومداولة للسلطة سلميا, وتغيير النظام عبر حركة الناس والجماهير والحفاظ علي النظام الجمهوري. كما أن بعض ما يحدث الآن من تحركات جبهوية حزبية, كائتلاف أحزاب المعارضة الديموقراطي الذي يضم أحزاب الوفد والناصري والتجمع والجبهة, حدث مثله في مراحل سابقة ولم يؤد إلي نتيجة كبيرة في حينه, ومن هنا يمكن للمراقب أن يتساءل: ما الذي تغير في اللحظة الراهنة لكي يتوقع نتيجة مختلفة؟ بداية هناك حسابات انتخابية برلمانية ورئاسية بدأت تفرض نفسها بقوة علي كافة القوي السياسية سواء انتظمت في أحزاب أو استندت إلي وجودها في الشارع دون أن يكون لها كيان تنظيمي معترف به قانونا, وهي الحسابات التي تقوم في جانب منها علي محاولة ضمان أكبر قدر ممكن من تأييد المواطنين وكسب الشعبية, وهو ما يمكن تدبيره عبر الاشتباك مع العديد من القضايا والمطالب المطروحة في الشارع السياسي كالإصلاح والديموقراطية والمشاركة وغيرها اعتقادا بأنها القضايا التي تجذب التأييد المطلوب. وثانيا هناك متغير البرادعي وجمعيته من أجل التغيير والتي يشارك فيها عدد من الناشطين السياسيين وأساتذة الجامعات وطلاب وشباب, وجميعهم غير أعضاء في الأحزاب, أو كانوا في أحزاب وخرجوا منها, ويرنون إلي تشكيل حركة جماهيرية تفرض تعديلات دستورية كبري لاسيما قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة, وأن تحقق ما لم تحققه الأحزاب القانونية الموجودة علي الساحة منذ أكثر من ثلاثة عقود خاصة فيما يتعلق بحسن سير العملية الانتخابية. وثالثا هناك اهتمام دولي وإقليمي كبير ومتصاعد بما يجري في مصر باعتبارها قوة تأثير كبري في الاقليم, ومن شأن أي تحول فيها أو تغيير كبير أن يلقي بظلاله علي مجمل الإقليم بحكم النفاذية الطبيعية القائمة بين مصر ومحيطها العربي والاسلامي. ورابعا هناك حالة قلق عام في المنطقة الأكبر, أي الشرق الأوسط متضمنا المنطقة العربية, من تداعيات أي مواجهة غير محسوبة بين إسرائيل وكل من إيران وسوريا وحزب الله اللبناني. هكذا تجتمع عناصر محلية مصرية صرف وأخري تتعلق بالبيئة الاقليمية الأوسع تجعل مما يجري في مصر محطا للانظار ومحلا للاهتمام المتزايد, وتجعل للحراك السياسي الراهن مذاقا خاصا. وشق من هذه الخصوصيةي ينبع من أن حركة الشارع المصري لم تعد تعمل وفق ثنائية معارضة وحكومة, بل تتضمن جديدا يتمثل في معارضة ضد المعارضة, ومعارضة ضد الحكومة, ومعارضة مع الحكومة ضد شق آخر من المعارضة. فبالرغم من أن شعارات المعارضة واحدة تقريبا فإنها تواجه انقساما رأسيا وأفقيا في آن واحد. فمن قبل كان الانقسام يقوم علي مواجهة ضمنية وصريحة بين معارضة دينية موجودة في الشارع ترفع شعارات إسلامية وأخري مدنية تتمثل في الأحزاب وفي حركة الناشطين السياسيين الأفراد الذين شكلوا حركة احتجاجية بالمعني السياسي العام. أما الآن فالانقسام يشمل معارضة الأحزاب ضد معارضة الناشطين السياسيين الذين شكلوا أو انضموا إلي الجمعية الوطنية للتغيير, وكلاهما ضد المعارضة الدينية. والناظر إلي حركة الأحزاب الاربعة التي شكلت ما يعرف بالائتلاف الديمقراطي والتي عقدت مؤتمرها في الأيام الثلاثة الماضية تحت شعار الاصلاح الدستوري البديل الآمن للوطن, يجد أن القاسم المشترك بينهم هو السعي نحو تأكيد دور الاحزاب في التغيير السلمي الديموقراطي المقنن, باعتبار أن الأحزاب هي وسيلة للتعبير عن مصالح وسياسات قطاعات عريضة من المواطنين, وأن قدرتها علي التحرك وسط الجماهير هو أساس عملها لحشد التأييد وصولا للسلطة عبر صناديق الانتخابات. وقد يجد المراقب هنا أن الغيرة السياسية دافع لهذا التحرك, كما أن الخوف من سحب الأبسطة من تحت أقدام الأحزاب دفعت إلي التفكير في عمل جبهوي يعطي مردودا وتأثيرا لا يقل عن تأثير الحركات الاحتجاجية والمعارضة غير الحزبية إن لم يكن يفوقها. ولكن تظل هناك إشكالية التعاون الممكن بين هذا الائتلاف وبين حركة الناشطين بقيادة البرادعي, وهي إشكالية طرحت نفسها علي المشاركين في المؤتمر المشار إليه, ولم تخرج الحلول العملية عن أحد بديلين, إما أن تنضم حركة البرادعي إلي الائتلاف الحزبي, أو أن يحدث العكس. ولما كان من غير الممكن أن تحل الأحزاب نفسها وتتحول إلي حركة غير مقننة, يصبح من العسير قبول انضمام الاحزاب إلي حركة البرادعي التي تتمسك بأن تكون قيادة مرجحة لحشد الجماهير من أجل تغييرات دستورية موسعة, ومن ثم فالأرجح أن يظل التنافس بين الفريقين قائما, لاسيما أن رموزا في حركة البرادعي تصر علي أن هدفه الأول هو بناء حركة جماهيرية تدفع إلي تحول ديموقراطي وليس مجرد الترشح للانتخابات الرئاسية. وقد بدت ملامح هذا التنافس في بيان الاحزاب الاربعة الذي دعا النقابات ومنظمات المجتمع المدني إلي قبول برنامجها السياسي الذي يدعو إلي تغيير الدستور لضمان نزاهة الانتخابات. مثل هذه النتيجة تعني أننا أمام حراك سياسي مضاعف وفريد يعكس معاني ديموقراطية حتي ولو كانت غير مكتملة الاركان. حراك يدفع إلي التنافس لخدمة هدف جليل يسعي إليه كل المصريين بلا استثناء. حراك سياسي يجسد قدرة مصر علي أن تكون نموذجا رائدا في التغيير الاصلاحي السلمي, حماية لنفسها ولأمتها العربية معا.