لقد فرح الشعب المصري بثورته. ورغم المشكلات التي ظهرت هنا وهناك, فإن الأمل لايزال كبيرا في مستقبل يعيش فيه الجميع حياة مدنية مستقرة, فضيلتها العدل وسمتها الأداء والانجاز. ولكن ما إن يتوهج الأمل في نفوسنا حتي نواجه مايكدره. وقد تمثل ذلك في سلسلة الأزمات لعل أشدها علينا تلك الأزمة الراهنة التي تشهد عراكا ضافيا يجعل الصالح العام يفلت من أيدينا. فقد كان من المتوقع أن يرتفع صوت العقل والضمير وأن ينشد الجميع شعبا وحكومة ومجلسا حاكما ونخبا سياسية واجتماعية الالتقاء لا الفرقة والاتفاق لا الفجوة. لا أقول الاختلاف لأن الاختلاف أمر مطلوب وضروري, وهو عكس التباعد والجفوة والتهديد وإظهار العضلات وهو مانراه رأي العين معبرا عن الأزمة الراهنة. لقد تفجر الصراع الاجتماعي بأشكال عديدة: فعند القاع تتقاتل القبائل وتنهض العصبيات من مكامنها, وتدخل جماعات في عنف ظاهر مع جماعات أخري, وقري أخري, وأفراد مع أفراد أو جماعات أخري, وتشيع الفوضي في السلوك كما يشيع عدم الالتزام بالقانون أو حتي بالوازع الاجتماعي العام, وقد يحدث هذا العنف وهذا الصراع لأسباب تافهة وكأن الناس مسكونة بطاقة من العنف تنتظر من يوقظها علي أهون الأسباب. وعند القمة تفشل النخب في الاتفاق علي وثيقة, ويتطاحن بعضها في المحاكم لإقصاء فئات بعينها من حلبة السياسة, وتهدد فئات أخري بالاقدام علي أفعال من بينها التهديد باستخدام القوة أو التظاهر أو الانسحاب. وعند القمة ايضا تنشغل الحكومة في تفاصيل يومية لتهئة اصحاب المطالب وامتصاص غضبهم ومنحهم وعودا لا تتحقق. وفوق القمة يتربع المجلس العسكري ناظرا إلي الأمر كله من أعلي. ويصل العراك إلي أقصي درجة عندما يتخذ شكلا عنيفا بالمواجهة بين رجال الشرطة وجماهير الشعب, وما يكشف عنه من ثورات غضب تدفع الطرفين إلي سلوكيات تدعم دائرة العنف وتدخله أحيانا في حلقة مفرغة تضاعف من الخسائر, ومن صور التباعد والجفوة وعدم الثقة. وعلي أصداء هذا العراك متعدد الأطراف تتعدد الأصوات وتتكاثر دون سقف. وتأتي أكثر الأصوات ارتفاعا عبر وسائل الاتصال الجماهيري التي تتباري في طرح الرؤي والآراء, وتتنافس في إفساح مساحة لأصوات مختلفة, وآراء مختلفة, كما تتنافس في إدارة الحوار الذي يهتم بإبراز النجوم الإعلامية والمكاسب الإعلانية أكثر من اهتمامه بمضمون الحوار أو مراميه أو نتائجه المقصودة وغير المقصودة. وتأتي أصوات الشباب علي المواقع الاليكترونية (وهي ما تملكه من أدوات) أقل أرتفاعا لكي تعبر عن بعض يأس وقنوط وغضب وبعض من أمل في المستقبل مع حث المثقفين علي التفكير والتأمل, وحث النخب علي العمل الجاد والسعي نحو تبني إرادة حقيقية ومبادرات جادة, ودعاء كثير إلي الله أن ينقذ مصر من كل سوء. وقد بح صوت الشباب وأرهقت أصابعهم من كثرة التعليقات علي مواقع النقاش, وعندما يصيبهم بعض اليأس يذهبون إلي الميدان لكي يكونوا أكثر نفيرا, ولكي يجدوا لصوتهم مكانا علي خريطة لا يشاركون في رسمها. وعلي أرض الشارع تأتي الأصوات ناقدة غاضبة وهي تردد أنباء من نوع مختلف لايلتفت اليها أحد: أنباء عن هبوط البورصة, والتقلص الحاد في الموارد المقررة للميزانية, وتدني التدفقات السياحية الي مصر, وهبوط الإنتاج, وعدم الأمن, وعدم إنفاذ القانون. ويتكرر السؤال الذي لايلقي إجابة: إلي أين نحن سائرون؟ والمتأمل لهذه الأصوات يجد أنها تأتي مرهقة يائسة وحذرة تعبر عن خوف, لا من المستقبل فقط ولكن من الشارع ومن الناس ومن فقدان أسس العيش. كما أنها من ناحية أخري هي أصوات تفقد الثقة في كل من هو فوق: النخب السياسية, والأفراد, والحكومة, وفي كل شئ. صحيح أنك قد تسمع تحيزا إلي هذا أو ذاك, ولكنك سوف تشعر وأنت تسمع هذه الاصوات بأن الثقة في من هم فوق تنخفض إلي حد كبير, وأن ثمة تحولا مهما في الاتجاهات نحو فئات معينة, ومدي مشاركتها في الثورة, ومدي تشجيعها لها, ومدي وضوح رؤيتها. فانظر في هذا الحكم الذي ردده بعض من تحاورت معهم: أنا أشبه من صعد الي القمر, وبعد أن صعد إلي هناك بدأ يسأل, احنا هنا بنعمل إيه؟ والتشبيه الذي يقول بأن مصر أشبه بالفتاة التي تسير في الشارع فتكالب البعض علي اغتصابها, وعندما جاء من ينقذها طمع فيها في النهاية. وفي المشهد كله يغيب الصالح العام أو يتوه. لا أود هنا أن أوحي بأن الناس (والنخب منهم بخاصة) لايعرفون الصالح العام ولايرمون إلي إدراكه, ولكنه يتوه منهم, ويفلت من أيديهم وكيف لا يفلت من بين أيديهم وشحنات التواصل ضئيلة لا تكاد قوتها تحرك حتي البدء في الاتفاق ومرة أخري كيف لا يفلت الصالح العام من أيديهم والقدرة علي التدبر العقلي ضيئلة لا يكاد زيتها يضئ, وإن أضاء لبرهة فما تلبث سحابات العنف والاندفاعية أن تطغي عليه. ومن بين كل الأصوات التي تأتي متضاربة من هنا وهناك تسمع أصواتا تدرك الصالح العام وتعبر عنه بقوة ووضوح. وما الحديث عن الخوف من المستقبل والخوف من فقدان العيش ووقف الحال إلا إدراك بأن الصالح العام لايتحقق إلا بالأمن وبالرؤية الثاقبة للمستقبل, وبالعمل والانجاز. لا بل أنك قد تسمع أصواتا تحمل بهجة الحكمة وعبق الحضارة عندما تسمع هذه القصة التي ذكرتها إحدي طالباتي ونحن نتدبر أمور وطننا الغالي قائلة: ما أشبه الحال الذي نعيشه بحال سيدتين كانتا تتصارعان علي غلام تدعي كل واحدة منهما أنها أمه. وعندما ذهبا إلي القاضي طلب بربط الغلام في حبل وطلب من كل منهما أن تشد أحد أطرافه ومن تقوي علي شد الغلام إليها ستكون أمه. ولكن أم الغلام الحقيقية خافت عليه من قسوة الحبل وشدة الجذب فبدأت ترخي الحبل من يديها لتترك الغلام لغريمتها من اجل ألا يصاب الغلام بأذي. انتهت القصة ولم تنته رمزيتها! ولعل أهم ما في القصة من رمزية أن إدراك الصالح العام يتم بالعقل وبالنظر وبالتنازل والتفاوض. فالذي يخاف علي بلده عليه أن يرخي طرف الحبل قليلا, وأن يبتعد عما في نفسه وعقله من أحجار الفكر لكي تنجو مصر من شر جذبها هنا وهناك. إن الأفكار ليست كالأحجار, إنها رؤي يمكن تفكيكها وتركيبها, ويمكن تغييرها وتكييفها, وهي إن صارت كالأحجار صارت تطرفا وإرهابا يسيل الدماء أينما ولي وجهه. المزيد من مقالات د.احمد زايد