يتأسس النظام الاجتماعي العام في المجتمع علي توازن بين الدولة والمجتمع, فلا تطغي قوة طرف علي طرف آخر, ذلك أن طغيان قوة طرف علي الطرف الآخر قد يعني الفوضي العارمة في حالة طغيان قوة المجتمع, والقهر والظلم والإملاء في حالة طغيان الدولة. ومن نافلة القول أن الصالح العام, ومن ثم القدرة علي السير قدما من أجل تحقيق رفاهية المجموع, لايتحقق إلا في إطار من التوازن الخلاق بين الدولة والمجتمع. وقد يحق لنا أن نتأمل هذه العلاقة في مصر المعاصرة فيما بعد المد الثوري الذي تخلق في رحم المجتمع خلال الشهور القليلة الماضية. ولسنا بحاجة إلي كثير من التأمل والنظر لكي نؤكد بداءة أن هذه العلاقة تبدو وكأنها فقدت توازنها, فأصبحت قوة المجتمع تطغي علي قوة الدولة, وأصبحت الدولة تواجه مشكلات عديدة في ضبط حجم الطاقة التي تتولد من مجتمع ثائر فائر. لقد بدا الوضع وكأن الأمور تبدلت بالجملة, فبعد أن كان طغيان الدولة قاهرا ظاهرا لايخفي علي عين ولاينأي عن أذن, أصبحت الدولة( متمثلة في أجهزتها المختلفة) لطيفة رقيقة, حارسة, بحق تفتح ذراعيها للجميع, وإن لم تمنحهم شيئا ملموسا, فإنها تمنحهم القدرة علي الكلام وفض اختام السكوت, وبدا المجتمع وكأنه يعوض مافاته من فرط الكبت والهيمنة, لتنفتح فيه طاقات التذمر والغضب والامتعاض والعنف علي مصراعيها, ويؤدي ذلك إلي قلب معادلة التوازن بين الدولة والمجتمع, ليصبح المجتمع أقوي من الدولة, وتصبح المقارنة بين أفعال المجتمع وأفعال الدولة واجبة النظر. وأول ما يلاحظ علي أفعال المجتمع أنها قائمة علي الفعل والحركة والتوثب بصرف النظر عن حجم العقل والعقلانية فيما يصدر عن المجتمع من نشاط, في حين أن أفعال الدولة تقوم علي الاستجابة اللاحقة أكثر من الفعل والمبادأة. ولكل طرف من الطرفين منطقة في فعله, فلسان حال المجتمع يقول إن الأمد قد طال, وأن الثمرة التي تجني من التغيرات الثورية لم تتح بعد, وأن المجتمع الجديد, والحكام فيه علي وجه الخصوص, لم ينتج آليات جديدة تميزه عن مجتمع ماقبل الثورة, وأما لسان حال الدولة فيقول إن الأمور يجب أن تؤخذ بعقلانية وأن المشكلات أضخم وأكبر من أن تعالج في يوم وليلة, وأن التحديات أكبر بكثير مما يمكن أن نتصور. وفي هذا التفاعل غير المتكافئ يظهر المجتمع وكأنه يستقوي علي الدولة, بل وقد يبرز لها عضلاته من حين لآخر. وتتجلي قوة المجتمع في عدد من انبعاثات الطاقة الكامنة في المجتمع, والتي كانت منضبطة عند مستوي معين, ثم فضت الثورة ماعليها من أختام وأغلال, وتجسد انبعاثات الطاقة هذه شكلا من أشكال الطاقة الثورية, التي استقاها الشعب من قوة أفعاله في أثناء الثورة وبعدها, من ناحية, ومن ردود فعل الدولة علي هذه الأفعال, والتي اتسمت بالبطء والتردد من ناحية أخري, لقد خلعت هذه الطاقة الثورية عن الشعب كل مظاهر الخوف من السلطة, وفتحت أمامه الطريق للتعبير عن مطالبه بالصورة التي يختارها, وألبست السلوك طابع الغلظة أحيانا والتمرد أحيانا أخري, بل والعنف أحيانا ثالثة, لقد فتحت هذه الطاقة الثورية كل آبار الحرمان فغدت كل فئة تعرض ظلمها وتبرر مصالحها وإن كانت ضيقة محدودة, وشحذت الأفئدة والألسنة بمقارنات وتنميطات, لا بل واتهامات, فكثر الحديث عن الفساد والفاسدين, والثوار والثوريين, والثورة والثورة المضادة, وماقبل الثورة ومابعدها, وأصبح لسان كل شخص إثبات ظلم قائم أو البحث عن طهارة ممكنة, أو تأكيد ثورية متصورة, أو إبداء امتعاض مما هو قائم أو رفض لكل شئ إلي درجة أن نسمع من يقول علي رءوس الاشهاد لا قانون فيما بعد الثورة. وفي كل الأحوال, لايكف الناس عن الكلام والنقاش, ولا تكف الفضائيات عن اضافة زيتها وتوابلها المعهودة علي ملاحم الكلام, فيفور ويزيد عن الحد أحيانا. ولعل أخطر مافي هذه العملية انبعاث الطاقة التدميرية المؤسسة علي العنف, والتي تظهر في صور غير تقليدية من تهديد أمن الأفراد وترويعهم, فيما أصبح يعرف بأعمال البلطجة. لقد اتخذت هذه الظاهرة صورا غير معهودة, فلم تعد البلطجة ترتبط بالاعتداء علي الآخرين من غير وجه حق أو ابتزازهم, بل أضحت أشبه بالثقافة العامة التي تتبدي في أساليب الخطاب, وعدم الالتزام بالقواعد العامة, والمغالاة في طلب الحقوق. وطلب حقوق غير مستحقة, في هذا الظرف يختلط الصواب بالخطأ, والصالح بالطالح, وتتمزق علاقات الثقة, ويحل محلها خوف دفين وقلق مؤرق, كل ذلك يشحذ المجتمع بقوة دافقة تصبح أشد وأقوي من الدولة وينتج عنها مواجهة مباشرة بين الدولة والمجتمع, في غياب تنظيمات مدنية فاعلة يمكن أن تقلل من حدة هذه المواجهة, أو توجهها في وجهات أكثر إيجابية وفي غياب العقلانية وإدراك الصالح العام, وفي هذا الظرف قد تفرض علي الدولة ضروبا من المشقة وتفقد الدولة واحدة من أهم أسس الاستقرار وأعني الدعم والمساندة القادمة من المجتمع. كما تتأثر قوة المجتمع رغم تدفقها الغاضب فتتحول بسبب عدم قدرتها علي التنظيم والتوجيه إلي قوة مشتتة, بل قد تتحول إلي قوة تدميرية تدفع البنية إلي أن تتصارع بدلا من أن تتضامن, وأن تطور هويات وأهواء مختلفة ومتناقضة, وأن تدخل في حرب لا رحمة فيها إذا مانضبت الموارد واستشري في نفوس البشر خوف دفين. ولاشك أن مثل هذا الموقف كان يراوح ذهن برتراند راسل في كتابة أثر العلم في المجتمع وهو يتأمل الآثار التدميرية للنزاعات الحربية وسباق التسلح والتقدم التكنولوجي. لقد أكد وهو يتأمل مستقبل البشرية أهمية التدبر العقلي, وأن علي البشرية أن تختار بين العقل أو القتل وأحسب أننا بحاجة إلي أن نتأمل هذه المقولة ونحن نسعي لتأسيس دولتنا الحديثة كما يأملها المجتمع. إن المجتمعات تفني إذا لم تتدبر أمورها بالعقل. إن هذا التدبر العقلي يمكن المجتمع من أن ينظم قواه, وأن يؤطر لمجال عام يتسع للنقاش والحوار من أجل الاتفاق وضبط المشاعر الفطرية والغرائز, كما تحتاجه الدولة كي تسمو بتفكيرها وتدبيرها إلي أعلي درجات الحذق والكفاءة, لا لتعلو علي المجتمع وتأخذه غصبا, ولكن لضبطه وتأمين حياة الافراد وحرياتهم ومساعدتهم علي العيش المشترك, والنهضة المستدامة. المزيد من مقالات د.أحمد زايد