ثمة شيء يلف موضوع الدعم, ويجعل الاقتراب منه, أو محاولة مناقشته, أمرا عصيا علي هذا المجتمع, أو أجهزته الإدارية أو السياسية التنفيذية. ربما كان ذلك الشيء أقرب إلي الحواديتية أو الأساطير, أو التشبيهات ذائعة الصيت. المشيرة إلي سكك يروح فيها المرء ولا يرجع, أو تعترضه خلالها غولة حمراء العينين, أو تبتلعه أمواج بحور سود متلاطمة, وتشده إلي قرار القرار. ومثل تلك الحواديتية سلبت المجتمع فرصة أي مناقشة صحية وصحيحة, كما لم تسمح بأية محاولة تجديد لسياسات تم وضعها منذ نحو نصف قرن, لا.. بل ومنعت إعادة صياغتها علي نحو يحقق فائدة أكبر لأولئك الذين تم اختراع الدعم من أجلهم. ولما كان مفهوم العدل الاجتماعي حاضرا وبقوة في كل ما أسطر حول أساليب إدارة الدولة, ومنهجية وضع السياسات والتوجهات, لا.. بل هو أحد وسائلي الأكثر حضورا في تقويم أداء الوزراء والكوادر الحزبية, فقد حرصت قبل أن أناقش الدعم, أن أستمع بنفسي من الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء إلي المنطق الحاكم في اقتراب الحكومة من ذلك الملف الحساس, ومدي حضور فقه العدل الاجتماعي فيه. الدكتور نظيف قال لي في الأسبوع الفائت ما نصه: الدعم هو إحدي الآليات الأساسية والضرورية التي تمتلكها الحكومة لتحقيق البعد الاجتماعي في التنمية الاقتصادية, وسياساتنا في موضوع الدعم تقوم علي الترشيد والاستهداف والكفاءة, ونسعي لتحقيق ذلك من خلال تكنولوجيا المعلومات, وبأسلوب التدرج لضمان التنفيذ الدقيق. والحقيقة أنني وجدت طرح فكرة الاستهداف في ذاتها طريقا يفضي إلي صميم العدل الاجتماعي لأنها تعني بقول واحد ما اصطلح المجتمع علي تسميته وصول الدعم إلي مستحقيه, وهي فكرة تكررت في خطابات عدد من الحكومات المصرية عبر عهود وعقود من دون طرح أي وسائل لتحقيقها حتي كادت تصير إحدي الجمل فاقدة المعني والمدلول التي يحفل بها الفضاء السياسي والفكري المصري ويزخر! وبمرور الوقت, وبتغيير السياق العام تشكلت في مصر جماعتان رئيسيتان تحاربان وصول الدعم إلي مستحقيه, أو تحقيق الاستهداف الصحيح, ملتحفتين بمناخ الحواديتية الذي يسبغ ما يشبه القداسة علي الدعم, ويرفع فوق ملفه لافتات ممنوع الاقتراب أو التصوير! الجماعة الأولي قوامها المنتفعون بشكل الدعم كما هو, والذي يؤدي إلي تسربه وعدم وصوله إلي الناس الذين يفترض أن يتحصلوه. والجماعة الثانية هي التي احترفت إشاعة جو سوداوي في البلد, يدفع إلي تعميق الإحساس بأن النظام تخلي عن مسئولياته تجاه الناس, وأنه مجازا ينحر الفقراء تحت أقدام الأغنياء. والحقيقة أنني علي كثرة ما تعرضت للموضوع, موجها انتقادات مريرة إلي إدارة رجال الأعمال فإن فكرة بعينها ينبغي الإيماء لها في هذا السياق, إذ لا توجد حكومة في الكون قادرة علي, أو راغبة في معاداة الناس الذين تحكمهم, وإنما هي باجتهاد تحاول تحقيق أفضل الأداءات التي تكفل الاستقرار المجتمعي, وحياة أفضل للمواطن, أو بعبارة ثانية لا توجد حكومة تريد عدم النجاح أو الحصول مجددا علي ثقة الناس. ومن ثم فإنني أنحي فكرة الاحتراب ضد الحكومة التي ذاعت ضمن مناخ السوداوية وأدت إلي سيادة مزاجMood متأزم ومحتقن يرفض قبول أو مناقشة ما يجيئه من تلك الحكومة, بينما يتجاوب مع نزوات تأييد قيادات سابقة التجهيز تم اختراعها وإطلاقها, فيما لا تطرح علي الذهن العام شيئا محددا, ولا تفصح عن رؤاها إزاء القضايا الأكثر إلحاحا علي ذهن الإدارة والمجتمع! علي أية حال فكرة الاستهداف أو إعادة التوجيهRechanneling دفعت إليها ظواهر مخيفة, بائنة للعيان تخبرنا بأن في هذا البلد أباطرة سوق يعيشون علي اختطاف الدعم قبل بلوغه أفواه أو جيوب البسطاء. انظر مثلا إلي رقم دعم الخبز(12 مليار جنيه), وإلي رقم دعم البوتاجاز(43 مليار جنيه) ستجد أن حجم المتسرب منه الذي لا يصل إلي المستحقين يبلغ ما بين10% و20%. أين تذهب تلك النسبة؟! هي ببساطة تدخل جيوب عدد من أصحاب قمائن الطوب أو مالكي الورش الذين يستخدمون الاسطوانات المدعومة في أعمالهم بالمئات, لا.. بل ونشأت حول أنبوبة البوتاجاز جماعة من المهربين تقوم بتسريبها علي الحدود المصرية مع قطاع غزة, أو مع الجماهيرية الليبية محققة أرباحا طائلة. ورأينا لوبي المنتفعين من دعم الخبز يستولي علي نسبة معتبرة من الدقيق يستخدمها في صناعة الحلويات, يعني طبقة منتفعين بالدعم من غير المستهدفين به تأسست في البلد, وباتت صاحبة أعلي الأصوات في الدفاع عن بقاء الحال علي ما هو عليه, متبنية فكر القداسة وفقه الحواديتية! إذن القصة ببساطة تعني أن انحرافا كبيرا يجري أمام ناظرينا, وقد صار لذلك الانحراف كتيبة من أصحاب المصالح تدافع عنه وتحميه وتفتديه, وتسترت تلك الكتيبة وراء مناخ الحواديتية أو الأسطورية والقداسة الذي يمنع مناقشة الموضوع, أو الاقتراب منه, والذي عادة ما يقترن بالتلويح بفزاعة ذكري(18 19 يناير1977), أو ما اشتهر باسم مظاهرات الخبز التي حصلت في سياق مختلف تماما, وبسبب قرارات عجولة غير مدروسة, رفعت بعض الدعم عن بعض السلع من دون أن تهتم بإعادة توجيهه إلي المستهدفين. يعني قرارات1977 رفعت بعض الدعم. لكن منهج الحكومة الحالية كما أدرسه منذ فترة لا يبغي إلغاء الدعم أو تخفيضه, لكنه يريد إعادة توزيعه. ومن حقنا أن ننتقد سياسات الحكومة, وسوف ننتقدها بطبيعة الحال عبر كل الوسائل السلمية( إذا كان ذلك ضروريا), وفي إطار التزام كل منا الوطني. لكن ما ليس من حقنا هو تجاهل مجهود مهم, اخترع صيغة هي بيقين الأكثر علمية في التعاطي مع مشكلة اقتصادية/ اجتماعية بذلك الحجم.. نحن لأول مرة منذ نصف قرن ننتقل من( الحواديتية) والأفكار النظرية محكمة الصياغة براقة المعاني, إلي( المعلوماتية) وبناء القرارات والتوجهات السياسية علي قاعدة بيانات جادة وصحيحةData-Base. يعني مرة أخري لمن شاء أن يفهم نحن ننتقل من( الخيال) إلي( الواقع) أو من تصور وصول الدعم إلي الذين امتلأ الخطاب السياسي لعشرات سنين بالحديث عنهم, إلي حصول أولئك فعليا علي نصيبهم الذي قدره المجتمع لهم. تحقيق( الترشيد) و(الاستهداف) و(الكفاءة) عن طريق استخدام تكنولوجيا المعلومات كما قال لي الدكتور نظيف هو الاقتراب الجاد الموشك علي التحقق من خلال أداء الحكومة الحالية( التي أكرر أنني أنتقدها في عدد من السياسات, ولكن لا أجد ما يحول دون الاعتراف بصحة أدائها وتوجهها في ملفات بعينها, أحدها هو منهج اقترابها من موضوع الدعم). وصلت الحكومة إلي ما يسمي:( بطاقة الأسرة الذكية للخدمات الاجتماعية), وهي التي تتضمن خانات ثماني تحدد حجم استفادة كل شخص من الدعم الحكومي بحسب موقعه الاجتماعي, أو درجة احتياجه. بمعني أن الناس أجمعين سيتم تسجيلهم في تلك البطاقات مقسمين إلي شرائح وفئات وفقا لمقاييس حصولهم أو عدم حصولهم علي الضمان الاجتماعي( المعاشات), أو تسجيلهم في بطاقات التموين, أو خضوعهم للتأمين الصحي, وغيرها من المقاييس التي تضع الفرد بالضبط في موقعه الاجتماعي, وتشير إلي مدي استحقاقيته لتحصل الدعم من عدمه, وبحيث يستخدم أحد المواطنين( فقير) بطاقته فيحصل علي خصم في السعر, ويستخدم مواطن آخر( غني) بطاقته فلا يحصل علي ذلك الخصم, لا.. بل وتتنوع درجات الفقر أو الثراء التي توضحها البطاقة طبقا لمعايير البنك الدولي التي قسمت المجتمع إلي خمس طبقات( وفقا لتجربة المكسيك التي تمت مناقشة إصلاح الدعم في مصر علي أساسها). ليس من الضروري أن يكون حجم كل طبقة هو20% من المجتمع, وإلا كان ذلك إقرارا لمنطق معملي هندسي نظري غير واقعي, وإنما من الممكن أن تزيد الطبقة الأكثر فقرا علي خمس المجتمع, وتقل الطبقة الأكثر ثراء عن خمس المجتمع.. وهكذا. المهم أن تسجيل الناس حصل أو أوشك, والتحرك نحو صرف الدعم عبر البطاقات الذكية سيبدأ( بالتدرج) كما قال لي رئيس مجلس الوزراء.. والقصة كلها ستتم في سقف زمني لا يجاوز خمس سنوات. حق المواطن من أنبوبة البوتاجاز المدعومة ذات الثلاثة جنيهات ونصف جنيه أو الأربعة سيتحصله وفقا لما قررته الحكومة من حصة( أنبوبة أو أكثر قليلا شهريا), وبالمناسبة هذا النصيب هو محل تفاوض( إذ مازلنا في مرحلة تشكيل النظام), ويمكننا إذا شعرنا بعدم كفايته أو وفائه باحتياجنا أن نطالب بزيادته, أما من يرغب في الحصول علي ما يجاوز ما استقر المجتمع علي تحديده من نصيب للفرد فعليه أن يدفع سعر الأنبوبة الحر الذي ربما يصل إلي خمسين جنيها. أصبح هناك إذن معيار عادل لإنفاق أموال الدعم, وهو ما سيتكرر في منظومة سلع وخدمات واسعة. وأعرف أن الحكومة من خلال وزارة التضامن الاجتماعي كانت قد بدأت تطبيق موضوع البطاقات الذكية علي نطاقات محدودة, أحدها في السويس, وجاء بنتائج مهمة, وبخاصة حين امتنع علي أصحاب المتاجر تسريب أي من سلع الدعم, لأنهم لم يصرفوها إلا بمقتضي استخدام البطاقات الذكية, ومن ثم فإن المسجل في جهاز تمرير البطاقة هو الذي تصرفه الوزارة لصاحب المتجر من سلعة بعينها, وبالسعر المدعوم. ما تفعله الحكومة الآن هو إقرار لثقافة دولة الرفاه الاجتماعيwelFare-State التي تعني التزام حدود العدل الاجتماعي في الدول الرأسمالية. نعرف أن ضجيج الشوارعيزم, والاستقواء بإثارة الناس وتحريضها سوف ينشط في الآونة المقبلة, حماية لمصالح المنتفعين, ولوبي نشر(مود) السوداوية, ولكن يقيني: أن المجتمع سينحاز هذه المرة للاختيار الصحيح لأنه ببساطة اختيار مفهوم, وشفاف, وله أول وله آخر, ولصيق بالواقعية, ومخاصم للحواديتية! د. سرور! نشرت هنا منذ أسبوعين مقالا بعنوان الشوارعيزم.. والفقيه مشيرا إلي واقعة حدثت في برنامج القاهرة اليوم ليل الأحد14 فبراير الفائت محتلة مكانها علي شاشة قناة الأوربت السعودية, وكان الدكتور أحمد فتحي سرور الفقيه الدستوري ورئيس مجلس الشعب طرفا فيها, أو قل كان بطلها. ويوم نشر المقال اتصل بي الرجل كريما, محاورا كعادته ومداعبا ليؤكد أنه لم يقصد الأستاذ حمدي رزق رئيس تحرير المصور ومقدم فقرة الصحافة في البرنامج, ولكنه قصد المحرض, وأراد بما وجهه إليه من ألفاظ تحقيره أمام بني الوطن. وعلي الرغم من أن هذا هو ما فهمناه وكتبناه بالضبط, وعلي الرغم من أن جل اعتراضنا كان علي نوع اللغة التي استخدمها أستاذنا الجليل, فإننا نحمد له حرصه علي الإيضاح للرأي العام, واهتمامه وسط شواغل كثر بمناقشة ما يرد في الصحافة, وجلاء ما يحتاج من وجهة نظره إلي استجلاء.