كنت سعيدا جدا بالثورة, واعتقدت ان كل ما كان قد خرب في البلد سيتم إصلاحه, وكل الجنون الدائر من قوانين معيبة وفساد ظاهر ومستتر وتخريب متعمد وسرقة فاجرة ونفاق وأوضاع مقلوبة قد انتهي. اعتقدت أن البلد قد انقذ اخيرا, لكن اتضح بعد كل هذه الأشهر أن كل شيء صار أسوأ مما كان وبدا أن الجنون الحقيقي كان علي وشك البدء, بعد أن دخلت الدولة بمؤسساتها في حالة من الغيبوبة الكاملة. لم يكن حسني مبارك قد تنحي بعد. وكانت الثورة بعد علي المحك وليس من الواضح إلي أين تمضي, لكن الفلاحين والصعايدة كانوا قد بدأوا فعلا في جلب الأسمنت والطوب الأحمر وشرعوا في البناء علي الأراضي الزراعية في كل المحافظات, ورغم مرور كل هذه الأشهر فإنهم مازالوا مستمرين في البناء حتي بوروا عدة آلاف من الأفدنة.. أفدنة الوادي القديم الخصبة التي لا تقدر بثمن. كانت بداية الصدمة في28 يناير حين خرج عشرات الألوف من السادة البلطجية في كل مكان للنهب والحرق, وتركوا ليمرحوا في الشوارع دون رادع. وقد كان هذا متوقعا طبقا لسياسة الأرض المحروقة التي تطبق دائما في مثل هذه الحالات, لكن غير العادي هو انضمام الكثير جدا من الناس العاديين إلي هذه العمليات. كان من المؤسف أن نري ما صورته كاميرات متاجر كارفور مثلا مئات الناس العاديين وهم يتكالبون علي منتجات المتجر لجمعها في العربات المعدنية ثم المشي بها علي الطريق الدائري, وما فعله أهالي مدينة السلام عندما أجهزوا تماما علي كل محتويات متجر ماكرو الضخم حتي لم يتركوا فيه قشة واحدة, وما حدث لمتاجر شارع شبرا, والمناطق التجارية في المهندسين, إضافة إلي مئات الحوادث المماثلة التي لم يكن أبطالها من جموع البلطجية. وبحث الناس عن الشقق الخالية والعمارات الجديدة تحت الإنشاء واستولوا علي شققها ووضعوا حاجياتهم وسكنوا فيها بكل صفاقة.. مئات العمارات وآلاف الشقق تم كسرها والاستيلاء عليها, وعندما أجبروا علي تركها حطموا الأبواب والنوافذ وسرقوا الحنفيات ومقابض الأبواب, ثم بدأ مسلسل شرس لهدم الفيلات والبيوت في كل المحافظات وبناء أبراج شاهقة بلا ترخيص, إضافة إلي تعلية العمارات القائمة, والاستيلاء علي الأراضي خاصة أراضي الدولة, وحالات استيلاء علي أجزاء من الشوارع نفسها, وهدم الحدائق للبناء عليها.. إن مدينة كالإسكندرية قد خربت تماما خلال الأشهر القليلة الماضية وتحولت إلي غابة اسمنتية قبيحة, والوضع في باقي المحافظات ليس أقل سوءا, ولم تسلم من هذه التعديات الاحياء الشعبية أو الراقية. واعتدي الناس علي الشوارع فقطعوا أشجارها وضموا الأرصفة إلي البيوت واستولوا عليها, ووضعوا الحواجز والأحجار لمنع انتظار السيارات, ومن أراد أن يصنع مطبا أمام بيته صنع, وهناك شوارع جانبية أغلقها سكانها وصنعوا منها جيتو مغلقا عليهم. وترك الناس أطفالهم يلهون بدهان الأرصفة وجذوع الأشجار, في عمل ظاهره خدمي لكنه في حقيقته نوع من وضع اليد علي الشوارع, ويشبه كثيرا ما تفعله الحيوانات عندما تترك علامات بلونها كتأكيد علي ملكيتها للمكان. وتكونت مئات العصابات الجديدة ممن لم يمارسوا الجريمة من قبل, ومارسوا كل الابتكارات العبقرية الإجرامية دون حساب. ونشطت سرقة السيارات في كل مكان, وصارت السرقة بالإكراه تتم بكل تبجح وفي وسط النهار وعلي مرأي من الناس. وابتكرت وسائل جديدة للخطف لطلب الفدية, وتم نهب كل ما هو عام من كابلات وأسلاك ومواسير وقضبان معدنية وغيرها مما لا يمكن حصره, وكل هذا يتم دون ذرة خوف من عقاب أو محاسبة. الأهالي في القري والمدن هم الذين يقطعون الطرق ويدمرون الممتلكات العامة ويقتحمون الأقسام كلما جد حادث.. عشرات المرات يتم إيقاف حركة القطارات. كل واحد يريد أن يأخذ ما يعتقد أنه حقه بيده, فإذا لم يأخذه كان الدمار من نصيب أي مبني أو سيارة تصادف وجودها في المكان.نسي الناس فجأة قواعد المرور. يكسرون الاشارات ويسيرون عكس السير ويركنون في وسط الشوارع, والويل لمن يعاتبهم. كل من يريد شيئا صار عليه أن يأخذه بقوة الذراع. هجم الموظفون علي رؤسائهم في كل مكان وضربوهم وطردوهم.. وكثيرون من موظفي الإدارات الحكومية المختلفة متوقفون عن العمل بدون أي سبب منطقي. قبل الثورة كان النهب يتم بالقانون لأشخاص معينين قدر لهم أن يحصلوا علي ميزات استثنائية مقابل تقديم خدمات مطلوبة للنظام, لكن اليوم يتم النهب بأيدي الأفراد الذين حرموا طويلا من ممارسة النهب. لقد كانت القمة تسرق وتترك المرضي عنهم ممن تشاء هي ليسرقوا ان قدموا لها معروفا, لكن بمجرد أن رحل قمم الفساد تحركت شهوته في النفوس الصغيرة, مثلما يترك الحيوان المفترس ما تبقي من الفريسة فتنقض عليه صغار الحيوانات والحشرات والقوارض. إن من يمارس كل هذا الجنون والتعدي في الشوارع الآن وعلي مدي الأشهر الماضية ليس نظام حسني مبارك. وانما هو الشعب نفسه. لكن ماذا كنا نتوقع من شعب كان ساسته ومشرعوه من الفسدة واللصوص لعشرات من السنين؟ شعب تربي علي أن المصلحة الفردية فوق كل اعتبار, وأن أي منصب عام أو خاص هو وسيلة للحصول علي المكاسب للنفس والأسرة والأصدقاء ليس أكثر. وعلي الجميع ان يمد يده ليأخذ اكبر قطعة ممكنة. ربما يكون الأمل الوحيد لهذا البلد في أجيال جديدة لم تولد بعد, علي فرض أن الأجيال الحالية لم تتول تربيتها علي نفس قيمها الفاسدة, لكن وقتها ربما لن يكون جسد الفريسة قد تبقي منه شئ. د. ميشيل حنا