ارتبط اسم الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بالفقه والمذهب الحنفي ارتباط تعظيم وإجلال وتمجيد, وارتبط اسمه أيضا برعاية الطلاب ارتباط سمو وتقدير, وإكبار وتبجيل. وسبق وتميز كبيرين, حيث بلغت رعاية الطلاب بفضله أعلي مستويات العظمة والكمال, واستطاع أبو حنيفة أن يسبق الدول الحديثة والحكومات في هذا المجال سبقا لا مثيل له, فقد كانت الرعاية شغله الشاغل, تشع مودة وصفاء وكرما, وتقدم للجميع عن طيب نفس وسعادة وحب وصدق. ان الامام الجليل حرص علي أن يتفرغ تلامذته للعلم والبحث والتحصيل, ومنعهم من أن يمارسوا أعمالا أخري في الصناعات والحرف وغيرها تصرفهم عن الجد والتمكن, أو تعرضهم للحرج والمهانة, ولذا أجزي عليهم رواتب شهرية سخية, تكفل لهم العيش الرضي, وتضمن الاستقرار والاطمئنان, وفي مقدمة تلامذته الذين سعدوا بذلك تلميذه أبو يوسف الذي نشأ في بيت فقير, وأراد أبواه أن يعزفاه عما هو فيه من طلب العلم, فقام الإمام بسد حاجته وحاجتهما من المال, ليكون ثمرة ناضجة يانعة من ثماره, ينعم بعلمه, ويفوز بتربيته, ويتفوق في ظل جوده وسخائه, ان مواقفه الرائعة مع تلاميذه تدل علي أنه أحياهم حياة جديدة, وفتح لهم من الآفاق ما لم يستطع غيره أن يفتحه, ولم ينقطع عطفه عليهم, وبره بهم في يوم من الأيام, فقد ظل أبا بارا, وصديقا وفيا يراعي الله في كل قول وفعل, ويتخذ من رسول الله صلي الله عليه وسلم أسوة في القول والفعل وأسلوب العيش, ومسيرة الحياة, فتلاميذه يسلكون الطريق لالتماس العلم, ورسول الله يقول: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلي الجنة ومعلمهم يفعل كل ما يقدر عليه, لييسر لهم طريق العلم, ويصر علي أن يكون وقتهم مددا للعلم, والتفقه في الدين, فيصرف لهم الكساء والمال, ويعني بقضاء الحوائج, ويهتم كل الاهتمام بالإنفاق عليهم, وشراء شتي متطلباتهم, ويعتبر تجارته الرابحة, وبضائعه الكبيرة, ملكا لهم وتحت تصرفهم, ثم يقول لهم كما ذكر محمد أبو زهرة: أنفقوا في حوائجكم, ولاتحمدوا إلا الله سبحانه وتعالي, فانها أرباح بضائعكم, ومما يجريه الله لكم علي يدي. وما صنعه العالم الكبير سبق باهر في مجال رعاية الطلاب, يتفوق به علي الجامعات المتقدمة, وأجهزة رعاية الشباب في الدولة الحديثة, التي تزهو بأنها تقرر منحا بمقتضاها يعفي الدارس من نفقات الدراسة, ويحظي براتب شهري يستعين به علي أعباء الحياة. لقد فعل أبو حنيفة ذلك وقام به وحده قبل ما يقرب من ثلاثة عشر قرنا من الزمان, والفرق كبير بينه وبين هذه الدول والحكومات التي تفتخر برعاية الطلاب, إنه قدم ما قدمه من النفقات والكسوة وشراء الحاجات والرواتب المالية بنفسه, في تميز وتفوق واضح,, وعطف وتشجيع ومنح عديدة, فعلا ذكره بين طلابه. يقول تلميذه أبو يوسف: كان أبو حنيفة يعولني وعيالي عشرين سنة, وإذا قلت له: ما رأيت أجود منك, يقول: كيف لو رأيت حمادا, يقصد أستاذه حماد بن أبي سليمان, كما أكد صاحب الأئمة الأربعة. لقد كان الإمام الأعظم يحب طلابه حبا جما, ويدفع عنهم الأذي, وكل همه أن يتفرغوا للعلم والبحث, وينتفعوا بدروسه الغالية, ويتتبعوا كل مورد عذب, ولكي تكتمل رعايتهم, طالبهم بالتجرد والإخلاص, والورع والتقوي, والالتزام بمنهاج الصالحين المعتصم بالقرآن الكريم والحديث الشريف, مؤكدا لهم أن من تعلم العلم للدنيا حرم بركته, ولم يرسخ في قلبه, ومن تعلمه للدين بورك في علمه, ورسخ في قلبه, وانتفع الناس به, أما توجيهه الرشيد في عديد من دروسه, فإنه كان يدعو إلي أن يخلصوا قلوبهم للإيمان, وأن يتزينوا بأخلاق العلم, وشمائل العلماء, ويتمسكوا بالصدق والاستقامة, فقد قال رسول الله: صلي الله عليه وسلم قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان, وجعل قلبه سليما, ولسانه صادقا, ونفسه مطمئنة, وخليقته مستقيمة. لا ريب في أن عظمة رعايته تناشد المعلمين الآن أن يتدبروا فيما صنعه أبو حنيفة المعلم الأمين, ويهتدوا بمنهجه الفريد, فهو منار المعلمين, وسراج المخلصين.. إنها ترجوهم التخفيف والتيسير, وعدم إرهاق أسر التلاميذ بتكاليف الدروس الخصوصية الباهظة, وعليهم تقديم العون والتوجيه والإرشاد. من حق الأمة الإسلامية أن تفخر بأبي حنيفة, صاحب السبق الكبير في رعاية الطلاب, إنه ثروة تربوية هائلة, ومدرسة كبري, تحمل عمق العلم, وسعة الفضل, وكرم التربية, وتحشد مكارم الأخلاق, وشمائل النبل.