مصر دولة الشرق الأوسط المريضة! كانت هي الوجه الأكثر بروزا علي خرائط الجغرافيا السياسية والدينية والإعلامية, والبشرية لتطورات المسألة المصرية في تفاقم أزماتها الهيكلية, وتعقد مشاكلها, وتدهور مستويات غالب النخبة السياسية الحاكمة علي كل محاورها ومواقع القوة داخلها. ووصل الأمر إلي حد جمودها, وعدم قدرتها علي التجديد في الرؤي والأفكار وأساليب العمل والحركة في غالب التخصصات والمجالات والسياسات! إن الضعف التكويني لنخبة الحكم خلال أكثر من ثلاثين عاما مضت من حكم الرئيس السابق, كانت تشير كما سبق لنا ولآخرين الكتابة إلي عجز المصادر التقليدية لتكوين النخب التكنوقراطية والبيروقراطية والأمنية علي توليد الكفاءات في هذه التخصصات, ومن ثم سادت أساليب الزبائنية والمحسوبية والوساطات تشكل محورا رئيسا ضمن الولاءات الشخصية والفساد والمديوكراتية والمنيوكراتية في اختيار غالب الشخصيات غير الكفوءة إلي مواقع حساسة داخل أجهزة الدولة تحتاج إلي الكفاءات والقدرات والمواهب والأخيلة السياسية لكي يمكن لهذه الأجهزة أن تتجدد هيكليا سواء علي مستوي الروئ والمفاهيم والسياسات واستراتيجيات العمل. من هنا تدهورت مستويات المعرفة بالدولة كما تطورت علي الصعيد الكوني من حيث انعكاسات العولمة وتراجع مفاهيم السيادة الوطنية, وانكسار الحدود, واتساع الأسواق, والتغير الذي شمل تقاليد الدول الأكثر تطورا في عالمنا بل وامتد إلي دول متوسطة في بعض أقاليم العالم الفرعية كتركيا في الشرق الأوسط! عالم من التنافسات الضارية بين الروئ والسياسات والاستراتيجيات الكونية, بينما بعض نخب أهل الكهف بالمعني المجازي المصري ظلت أسيرة دوائر الفشل والفساد والجهالات, والنمطية في الأداءات, وضعف مستويات المعرفة, وضحالة التكوين في عديد التخصصات, في ظل لغو بعض الخطابات السياسية الشائعة في السوق السياسي, والأخري الدينية الحاملة للمنطق والمصالح السياسية! خطابات وروئ حاملة لها تفتقر إلي معرفة دقيقة بأسئلة وخبرات وتحولات عصرنا ومجتمعنا وإقليمنا, ومن ثم تسارعت الفجوات بينها, وبين الواقع الموضوعي علي عديد مستوياته وأبعاده وتداخلاته. وكانت الدولة وثقافتها تتآكل وتصاب بأمراض بنيوية عضال, وكانت نخبة الحكم والمعارضات تعيد إنتاج نثارات عقيمة من الشعارات السياسية الجوفاء واللغو باسم الأمن, والاستقرار حينا, والسعي إلي الإصلاح السياسي والاقتصادي والتعليمي والصحي والإعلامي حينا آخر.. بينما الواقع يكشف وبجلاء عن التناقضات الحادة بين لغو الخطاب, وصدمات خطاب الواقع الموضوعي وتجسداته الصادمة المترعة بتراكم الفقر والجهل والمرض وضعف أجهزة الدولة, وعدم قدرتها علي أداء المهام المنوطة بها. لم يقتصر أمر تدهور مستويات الرؤي والأداءات والسياسات علي أجهزة الدولة المصرية الحديثة, كجامع كلي وإنما علي سلطات الدولة الثلاث, ومن يديرونها خلال أكثر من ستين عاما, وتدهور الخريطة التكوينية للمشرعين, ولتركيبة الحكومات إلا فيما ندر ولا مبالاة صناع القرارات والجروح التي شابت تكوينهم وقدراتهم ومهاراتهم. وهو ما تجلي في نخب السلطة الجديدة! وتدهور امتد إلي مستويات التكوين داخل مؤسسات تشكيل وتدريب غالب رجال القانون, ومن ثم خريجي كليات الحقوق والشريعة والقانون عموما في ظل استثناءات مقدرة لبعض أبناء الجماعة القضائية. وبرزت تجليات ذلك في الخطاب القضائي, والأحكام واللغة القانونية وبلاغة الخطاب, والتسبيب, والمبادئ إلا من رحم ربي من ذوي المعرفة والموهبة والتدريب الذاتي, ومن ناحية أخري ظلت المحاكم العليا الدستورية العليا, والإدارية العليا, والنقض معاقل للفكر الدستوري والقانوني والإداري العتيد في دولة كانت الهندسات القانونية الحديثة هي مداخلها لبناء الدولة/ الأمة الحديثة, ولتنظيماتها الإدارية والاجتماعية وسياساتها! كان التدهور المتسارع يبدو واضحا في أزمة السياسات التشريعية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والقضائية والإعلامية والثقافية.. إلخ.. إلخ! وكان بعض الثقاة من الباحثين والكتاب ذوي المعرفة والتكوين الرفيع والخبرات والاتصال بما يجري في عالمنا والمنطقة ومصر يشيرون إلي مواضع الاختلالات البنيوية العميقة ويقدمون الرؤي والتصورات. وكان خطاب الضحالة التي تصل في بعض الأحيان إلي البلاهة سادرا في غيه لا يري ولا يقرأ ولا يسمع ما يدور حوله. وكانت مستويات نخب الدولة التسلطية والضعيفة والمستمرة والسائرة إلي ذروة مأساتها, تبدو جلية وصادمة في إدارة غالب ملفات السياسة الخارجية حول قضايا الأمن القومي المصري حوض النيل والعلاقات مع الأشقاء السودانيين والأفارقة, الملف الفلسطيني الفلسطيني, الملف الإسرائيلي, الملف مع نظام العقيد القذافي, العلاقات مع دول النفط ودول الجوار الجغرافي العربي.. العلاقات مع أمريكا وأوروبا.. إلخ فشل في غالب الملفات, ازدواجية في التخصصات والتنافسات بين من يديرونها, والصراعات بين أجهزة الدولة مع بعضها بعضا! ورثنا تركة من الفشل والاضطراب, وقامت الانتفاضة الثورية, وبدا الفشل الحاد في إدارة تحديات المراحل الانتقالية التي كشفت عن ذروة الدراما المصرية المعاصرة فشل السلطة الفعلية في البلاد, وحلفائها من الإخوان المسلمين وغيرهم, ومن يسمون مجازا بالقوي المدنية, أو الديمقراطية! فشل ناتج عن تصورات للدولة انتهت, وعن عدم قدرة ومعرفة وبصيرة بكيفية إدارة الانتقال من السلطوية إلي الديمقراطية في التجارب المقارنة, وتآكل وموت خبرة العمل في الدولة التسلطية وفشله. وجاء القادمون الجدد لنكتشف ذروة المأساة فشل كامل في التعامل مع ثقافة الدولة وتقاليدها, والتعامل بمنطق ثقافة التقية السياسية, والعمل السري, ومنطق العمل ضد قانون الدولة. من هنا بدا واضحا ميل بعضهم إلي تشكيل مجموعات تؤدي وظائف جهاز الدولة الأمني, وتطبق قانونها, ودونما أي رد فعل حاسم من الدولة والمساءلة القانونية لهؤلاء الذين يطرحون منطق المنظمات السرية المغلقة أو أشباهها بديلا عن الدولة وأجهزتها, رغما عن عديد الممارسات الشائعة ضد قانون الدولة. غياب الرؤية والسياسة في عديد المجالات هو العطب البنيوي في عملية إدارة السياسة أين هي؟! والدولة من هنا تبدو الاضطرابات الأمنية, وعدم الاستقرار الهيكلي, ومصادمات الأمن والمجموعات الغاضبة والثائرة واتساع الفجوة بين مؤسسات الحكم وقطاعات واسعة من الأمة, وهؤلاء الذين يتحدون فكرة ومنطق الدولة وثقافتها وتقاليدها, وأدوارها وتطوراتها الكونية. هل وصلنا إلي حالة المجتمع ضد الدولة؟ هذا ما سوف نحاول متابعته في المقال القادم. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح