كيف يمكنني أن ألخص مسيرة هذا الإنسان العظيم في سطور قليلة؟ كيف يمكنني أن أسرد عطاءه وفكره ورؤاه المستقبلية لمصر في بضع كلمات قصيرة ؟ كيف يمكنني ذلك حقا؟ الكتاب الذي رافقني طوال أيام هذا الأسبوع وعنوانه( رشدي سعيد1920 ..2013 قراءة معاصرة لبعض أعماله) لكاتبه فكري أندراوس كان عونا لي لأداء هذه المهمة الشاقة.. يصحبنا هنا الكاتب في دروب رحلة رشدي سعيد في الحياة من زوايا مختلفة, فيها جزء عن حياته الشخصية والعائلية, وجزء عن تفوقه ومجهوده في البحث العلمي, ومحاولة تطبيقه علي أرض الواقع في الحياة العملية. والجزء الثالث هو تاريخه السياسي, والذي أوصله إلي عضوية مجلس الأمة في مصر أثناء حكم عبد الناصر علي حد كلمات د. محمد أبو الغار الذي قدم للكتاب. أتوقف عند كلمات كاتبنا الكبير محمد حسنين هيكل, وهو يصف د. رشدي سعيد فيقول: نحن أمام أستاذ في الجيولوجيا خطا من الجامعة إلي المجتمع, ومن العلم إلي الثقافة حين استطاع أن ينفد من طبقات الأرض إلي حياة البشر الذين يعيشون فوقها, ثم استطاع أن يحيط بطبقات الأرض وحياة البشر في وطن بذاته إحاطة تربط الجغرافيا والتاريخ تصل الحاضر والمستقبل, وتكشف بالعلم والحكمة مطالب التقدم والعمران. هذا هو دكتور رشدي سعيد الذي فارق عالمنا في مطلع هذا العام.. عاشق لتراب مصر هو... يدرك أسرار تربتها ورمالها وصحاريها ووديانها ونيلها الأسمر الخير.. يملك رؤية استشرافية مستقبلية جعلته يقدم( خارطة جديدة) لمصر تزخر بمشاريع وخطط تعضض من مسارنا التنموي, وتجعلنا في مصاف الأمم( المنتجة) و( المصدرة), وليست فقط( المستهلكة) و( المستوردة). هو ليس عالما جيولوجيا فقط, بل مفكر له رؤية تثير التأمل والاهتمام, وكيف لاوهاجسه الأكبر الذي ظل يشغله طوال سنوات عمره: التفكير المستقبلي طويل المدي لخريطة مصر.. الأرض... الماء.. الطاقة.. ثلاثية طالما شغلت باله... وكان السؤال الذي ظل يتردد طويلا في عقله ووجدانه: كيف ننقذ( الوادي) المثقل بالمشكلات والأوجاع والهموم؟ كيف ننقذ الأرض الزراعية, وننقذ حصتنا من المياه وننقذ أيضا إنتاج مصر من الغاز الطبيعي؟. وقدم رشدي سعيد تصورا شاملا في هذا الصدد عنوانه: الخروج إلي الصحراء. هنا في هذه الرمال الصفراء الشاسعة يكمن مستقبل مصر... هنا الطاقة.. والغاز.. والآبار.. هنا الزراعة الصحراوية ذات المواصفات الخاصة... هنا نعيد تعمير مصر من جديد.. هنا( العمود الفقري) لمستقبل مصر.. وفي كتابه العظيم( نهر النيل) والذي يعد بمثابة دراسة موسوعية للنهر الخالد.. شريان الحياة لمصر.. يقدم هنا العالم الكبير رؤيته في أربعة أجزاء.. الجزء الأول عن نشأة وتطور نهر النيل, الجزء الثاني عن( هيدرولوجية) النهر الجزء الثالث عن استخدامات مياه النيل محللا باستفاضة مشروع السد العالي وفوائده والآثار الجانبية للسد, وأخيرا الجزء الرابع, والذي يتحدث فيه عن استخدامات مياه النيل.. وإلي جوار عمله الفياض في الجيولوجيا ورؤاه الاستشرافية لمستقبل مصر, آمن رشدي سعيد ب( الدولة الحديثة) التي يكون فيها( القانون) سيدا لا استثناء, وتكون( الإدارة) محترمة للفرد, وفي خدمته. بذل الكاتب فكري أندراوس جهدا كبيرا في تتبع مسيرة هذا الرجل العظيم, فجاء كتابه موثقا بالمقالات والحوارات والكتابات التي شارك فيها د. رشدي سعيد فضلا عن كتبه ومؤلفاته مما أكسبه عمقا وثراء.. صادر عن دار الثقافة الجديدة.