يعرف مقابر العامود, تردد عليها بصحبة أبيه, منطقة الطوبجية ملاصقة للمقابر بلا سور فاصل, بجوار المستشفي العمالي, الأسوار العالية تحيط بالطرقات المتقاطعة والأحواض, دخلا الباب الذي استلقت ضلفتاه علي الحائط, خلف سوق الأغنام, وباقات الخوص والزهور والورود والرياحين والنعناع, والصدقة, والرحمة والنور. سار في الأرض الترابية, علي جانبيها أحواش, تتخللها قبور بلا شواهد, لم تعد الأحواش كما كان يذكر ذات أبواب خشبية مغلقة, أو مفتوحة, تتناثر بينها أشجار صبار, الي جانب كل باب لافتة نحاسية باسم شخص, او عائلة, ينسب إليها المدفن غاب عنه موضع حوش عائلته. في آخر زيارة, شاهد اللوحة المعدنية علي الجدار, الي جانب الباب, اختفت اللوحة, واختفي الباب الخشبي الضخم, وتعريشة اللبلاب التي كانت تصنع سقفا للحوش. قلب في أوراقه, استعاد الاسم ورقم التليفون من البطاقة الصغيرة, ترامي الصوت يعتذر بموت التربي, وانشغال أبنائه بمهن أخري. فطن الصوت الي حيرته: لمن المدفن؟ طه الدسوقي. ما أذكره أن المدفن ضمن الأحواش الثلاثين علي اليمين, في نهاية شارع الرحمة. وجد في الكلمات طرف خيط, التقطه, سار في شارع الرحمة الي قرب نهايته, تبدل المكان بما لم يعد يذكره, تجاورت الأحواش والشواهد والمقابر, تشابهت, لم يعرف في اختلاطها أين مدفن العائلة, نزعت الأبواب والنوافذ الحديدية المطلة علي خارج الأسوار, والمقابض ضاعت, وتساقط الطلاء, وذوت أشجار الصبار, ما حدث كأنه بفعل تخريب وليس لعامل الزمن, تناثرت المقابر بين الأحواش, وعلي جانبي الطرقات, امتدت الحبال أعلي الجدران المتقابلة, علقت عليها ملابس مغسولة. أنفاس الموت في الأحواش والأسوار الحجرية والقبور والشواهد والسكون وطنين الذباب والرائحة التي يصعب تفسيرها. هل بدأ التردد علي المقابر لاحساسه بالنهاية؟ يكون قريبا بعد تقدم العمر؟ هذه هي السن التي تتحرك في مساحتها الضيقة أفكار الموت, تسيطر عليه عشرات الرؤي والتصورات والتخيلات. لم يناقش أسئلة من أي نوع, وإن اطمأن الي أنه يجب أن يرقد الي جانب أمه وأبيه, في هذه المقبرة, تحت الضريح الذي يتوسط الحوش. كان أول تفكيره في زيارة المقابر, حين ظهر أبوه في المنام, لم تفلح ابتسامته في مداراة ما بداخله من استياء: هل نسيتني؟ تكرر الحلم, والسؤال الذي لم يتغير. قال فهمي دعبس, زميله في المكتب المجاور, إنه سيتأخر غدا لزيارة مقابر المنارة في طلعة رجب. استطرد في نبرة معتذرة: أشهر قليلة مضت علي وفاة أبي. مضت في حياته أشهر وأعوام, نسي الأمر تماما, أصرت أمه أن تبيت الي جانب القبر, تهون علي الميت حساب الملكين, تدعو بالمغفرة, لا يذكر متي كانت آخر زياراته الي العامود, ربما عشرة أعوام, وربما أكثر, أعد ترتيبات جنازة أبيه, واستخرج تصريح الدفن, وشيع الجنازة. اخترقت الجنازة شارع الميدان الي التقائه بسوق راتب, صلي علي الجثمان في جامع الشيخ, اتجهت ناحية ميدان المنشية, مالت في شارع السبع بنات, حتي مقابر العامود. صحب أخته وأبناءها صباح اليوم التالي لزيارة شق القبر, التقط التسمية من أخته, هو يوم الحساب, يسأله الملكان عن أفعال حياته, يجيب بما حدث تماما, اذا أخفي, فان القدرة تنطق جوارحه, قعودهم حول الضريح للتخفيف من معاناته. دخل في مرات كثيرة من الباب الحجري المنزوع الباب, الي شارع الرحمة, تتوقف الخطوات عند قبور أقارب وأصدقاء وزملاء عمل. صحب أخته في العيدين وطلعه رجب. قبلت اعتذاره يوما بظروف العمل, تباعدت زياراته حتي أهمل الأمر تماما, لم يعد يتردد علي العامود. ركب الترام من بحري الي كرموز, عبر الميدان الصغير الي باب العامود, شارع الرحمة, يذكر التسمية علي اللافتة يسار الشارع الترابي الطويل, القبور المتلاصقة داخل الأحواش, وبين الطرقات لم تكن موجودة تجعل السير صعبا, تأمل بنظرة دهشة حمل جثمان من النعش خارج الأحواش, والسير به بصعوبة بين المقابر الي داخل المدافن. سار بالتذكر قبل أن يلتقي الرجل ذا السحنة المغبرة والجلباب المرفوع الي خصره, ويجر خلفه فأسا: أين حوش عائلة الدسوقي؟ قال الرجل: لم يعد أفراد عائلة الدسوقي يأتون, أعرف أنهم اشتروا في المنارة. ثم وهو يهيل التراب علي المجاديل: الموتي في قبورهم, الحوش الآن لعائلة تعيلب. واتجه اليه متسائلا: ألم تستضيفوا موتاهم في الحوش؟ ثم في لهجة تسليم: هم الآن أصحابه. هز رأسه برفض التصور أن أباه يدفن في مقبرة عائلة غير عائلته, تعيلب أقارب من بعيد, لكنهم ليسوا عائلته. لم يعد الحوش كما يذكره, كما عهده من آخر زياراته قبل عشرين عاما, مستطيل, واسع بلا سقف, وإن ظللت جانبا منه شجرة كثيرة الأغصان والأوراق, وثمة الكنبة الخشبية والأرضية الرخام, والردهة المخصصة للنساء, الي جانب الحوش, علي اليمين لصق الجدار قبر صدقة, يدفن فيه من لا أهل له, أو لا يملك مدفنا خاصا. حدق في الرجل: علق التراب برموشه, وتناثرت في بشرته دوب وخدوش وأوساخ, وغطت الصفرة أسنانه. شملته ارتجافة, تصور يده علي جسده تلامسانه, تقبضان عليه, تنتزعانه من الأيدي لتغيبانه, اليدان تحملان الميت, تهبطان به الي داخل الحفرة الترابية, ثم تعيدان المجاديل الي موضعهما, وتهيلان التراب, يرفع قامته بعد أن غيب. في باطن الأرض, عمرا. لاحظ الرجل نظرته المحدقة: الدفن شغلي. ثم وهو يجول بعينيه فيما حوله: أنا أحكم مدينة من الموتي! وأحاط مقبض الفأس براحتيه: وافترت شفتاه عن ابتسامة فاترة: الشباب والشيوخ سيموتون.. الفرق أنه كلما تقدم بنا العمر أخذتنا الفكرة. علي الجدران أسماء قدر أنها لموتي دفنوا في الحوش, وأرقام طمس معظمها فتصعب القراءة, لو أن الأعداد الهائلة من موتي العائلة خرجت الي ظهر الدنيا, لامتلأت الشوارع والميادين والأحياء والمدن القريبة والبعيدة, الي مناطق لا تخطر في البال, أعداد يصعب حصرها, المقبرة ليست مجرد بناء يتركه الي بناء آخر, هي تاريخ العائلة من زمن لايذكره, أو أنه لا يعرفه. قال - ليس بيني وبين الموتي خصومة, خصومتي مع من دفنوهم في قبورنا. قال الرجل: أنا لا أفتش عن أصل الموتي. واتجه بنظراته ناحية الباب: يصحبهم أهلهم موتي إلي هنا. وأردف في لهجة تقريرية: حق الموتي في الدفن مسئولية إدارية, الحي هو الذي ينظم الأمور. ورفع صوته في إنهاء للحوار: -- ناس كثيرون يطلبون الدفن, إدارة الحي لاتستطيع أن تفعل شيئا. طالعه مالم يتصوره, وأخافه: عشرات السحن لم يكن رآها تلاصقت في الحوش, بين الشواهد وشجيرات الصبار, واستندت إلي الجدران, تداخلت التكوينات والملامح, لم يستطع أن يميزها, ثم ميز من بينها أباه وأمه وأعمامه ووجوها أخري فطن إلي أنها لأفراد من عائلته, وطفل يكاد يفرد قامته, خمن أنه أخوه الأصغر الذي مات وهو في مثل سنه. هل قاموا من الموت؟ استعاد ما كانت ترويه أمه عن ظهور أرواح الموتي في المقابر, وحكايات أبيه عن عفاريت القيالة. السكون هو الذي يحرض أرواح الموتي علي التجول في المقابر, تتحول إلي دنيا ثانية, لا أكفان مما التفت بها داخل المقابر, وإنما لباس الحياة الدنيا, ما كانت ترتديه قبل أن تثبت حركتها, جلابيب وبدل وقفاطين وجبب وفساتين وتاييرات, ذلك ما يحدث وقت القيالة, تنقطع الرجل في الطرق الترابية. ما بين أول الليل وآخره, تنتقل أرواح الموتي تحت خيمة الظلمة. ذاب ارتباكه في العبارات المرحبة والنداءات والهمسات والأسئلة.. أدرك أن روح أبيه لم تفارق البيت, يظهر التكوين الجسدي في ومضات سريعة, يعلو وقع قدميه علي سلم البيت, وفي داخل الشقة, تتحرك صورته المعلقة علي جدار الصالة. لم يعد بعد الأربعين يضيء البيت, يعرف أن الروح تذهب بعد انقضاء المدة, تعود إلي مستقرها. قال الأب: لا أدري إن كنت قد جئت في موعدك.. لكن رقادنا طال تحت التراب! ونطقت عيناه باللوم: كاد اليأس يميتنا مرة ثانية من قدومك. استطرد للدهشة في ملامحه: عائلة تعيلب شغلوا الحوش لايتركونه, لانجد فرصة للانطلاق. تحركت الأجساد الطيفية, اقتعدت الأضرحة وحافة السور, تناثرت في الزوايا, حلقت أعلي الحوش كأنها سحب صغيرة متداخلة, لاذ بعضها بأغصان الشجرة المطلة من الحوش الخلفي. لم ير شيئا يستعين به أبوه, ولا من حوله, في التحليق داخل الحوش وخارجه, يختلطون في البراح بأطياف أخري, أرواح أخري, محلقة, لانهاية لها. جلس أبوه فوق الجدار, متقاطع الساقين, وظهره كمن أسنده إلي الفراغ. ألم فظيع تقلصت به ملامح أبيه قبل أن يتحشرج صوته بما لم يألفه. هل هذا هو الموت؟ فطن أبوه إلي مايدور في باله, استعاد ما جري, لم يجرب هذا الشعور من قبل, تنفصل الروح عن الجسد. يظل الجسد ساكنا, هامدا, يدركه التحلل, بينما الروح تحوم في سماء الشقة. معني الموت نهاية كل شيء, الروح لاحيلة لها, الجسد هو الذي يقدر علي الفعل. لكن الجسد وحده يعاني التحلل والتلاشي, الروح تحلق في السموات, وإن ظلت أربعين يوما في فراغ الحجرات, قوي خفية تمنعها من أن تنطلق عبر النوافذ إلي الفضاء الممتد بلا آفاق, تظل داخل الشقة فترة معروفة, أربعون يوما وينتهي كل شيء, تنتقل إلي آفاق أخري, حاول أن يضع لها تصورا مما يتذكره من جلسات بين أمة وأبيه, بينهما وبين جدته وأقاربه. بقي في الأربعين يوما داخل الشقة, شاهد ماجري, حتي حمل الرجال جثمانه إلي باب البيت, راقب توسيدة النعش المفتوح, إسدال الغطاء الهرمي فوقه, انطلاق الجنازة, كل يريد أن يكسب ثواب المشاركة في حمل النعش. تابع الخطوات المهرولة, حتي مالت الجنازة في انحناءة الطريق, الانتظار داخل الشقة هو ما يملكه. عرف أن حرص أبناؤه علي إضاءة كل الحجرات كي تذهب الوحشة عنه. أصر أن يرافقه إخوته خارج البيت, مضي يوم, وثان, وثالث, ظلت الشقة مضاءة, ومغلقة طيلة الأيام الأربعين. ليس لدي الروح في الحياة ما تفعله, ربما تعود إلي الأماكن التي أمضي فيها المرء حياته,تحوم, تحلق, تطمئن إلي الأحوال, تظهر في المنامات, لتواسي, وتحث علي المواجهة. قال الأب: ألزمتنا عائلة تعيلب قبورنا, بينما الأرواح الأخري تنطلق بين أحواش الموتي, دون محاسبة. قال كهل يقارب الخمسين, اطمئن له بمشاعر القرب: نظل في قبورنا لابد أن تحرص علي الحوش! تحركت شفتا عم إسكندر بما لم يتبينه. استعاد الكلمات, تلكأ العم شفيق الحلي في نطق الحروف: لاتبتعدوا! كيف تتقبل أرواح الموتي ردم المقابر؟ كيف تتقبل نقل الأجداث إلي مواضع أخري, تختلف عن المواضع التي رقدت فيها, وواجهت حساب الملكين, وتفسخ الجسد, الجماجم والعظام والتراب والديدان, تحلله, امتزاجه ترابا بأرض المكان. سار بين الأحواش, وشواهد القبور, في اتجاه الباب الخارجي. الموظف في إدارة الجبانات بحي غرب جري علي الأسماء المثبتة في الكشكول الهائل. قال بنبرة تأكيد: الحوش باسم عائلة الدسوقي. هي عائلتي. ماشكواك؟ العائلة التي تنسب الحوش إلي نفسها. استولوا عليه بالقوة؟ أبي وأعمامي أتاحوه لهم.. وأغمض عينيه في تأثر: لم يكن لموتاهم مدفن. هل كنتم تترددون عليه؟ تزورونه؟ اشترت أسر العائلة في المنارة, قل التردد علي العامود, ثم لم يعد يذهب أحد. لذلك نسبوه إلي أنفسهم. بماذا تنصحني؟ العودة إلي المكان. كيف؟ عرض الرجل أن يتولي هو الإجراءات بنفسه, يعني بجمع البيانات والمذكرات والعقود, كل ما له صلة بالمقبرة. جميع أراضي المدافن ملك للدولة, السائد هو حق الانتفاع للمقبرة, العقد ممتد لا ينتهي, ويورث. ربما انتقلت مدافن العامود إلي المدافن الأخري... لماذا لاتنتقلون إلي المنارة أو سيدي بشر أو المندرة أو الدخيلة أو المكس أو كوم الشقافة. ظل صامتا, يغالب الارتباك, داخله شعور أن الرجل يطيل في التسويف كي لاتستعيد عائلته الحوش. علا صوت الموظف بلهجة رافضة: عملي أن أقر بحقك, وعليك أن تحصل عليه. ودس عينيه في الأوراق بما يعني أنه قال ماعنده.