جامعة المنيا تفوز بثلاثة مراكز مُتقدمة على مستوى الجامعات المصرية - تعرف عليها    مقترح برلماني لإلغاء درجات "الحافز الرياضي" لطلاب الثانوية    أسعار الخضروات والفاكهة اليوم الأحد 2 يونيو 2024.. البطاطس ب10.5 جنيه    وزارة التموين: انتظام صرف الخبز المدعم ل71 مليون مواطن    «الإسكان» تدرس شبكات المرافق في المناطق الجاري تقنين أوضاعها بالعبور الجديدة    «النقل»: تنفيذ 18.5% من الحواجز بمشروعات ميناء الإسكندرية الكبير    العليا للحج والعمرة: انتظام أعمال تفويج حجاج السياحة وتكاتف لإنجاح الموسم    المانجا طابت على الشجر.. حصاد مبكر لمحصول المانجو بجنوب سيناء    بعد إعلانه ترشحه للرئاسة.. من هو الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد؟    مسبار صيني يهبط على الجانب البعيد من القمر    جيش الاحتلال الإسرائيلي ينفذ غارات على أهداف في لبنان    كوريا الجنوبية والولايات المتحدة تدينان الاستقزازات الأخيرة لكوريا الشمالية    المقاومة الإسلامية في العراق تقصف هدفا حيويا في إيلات بإسرائيل    وزير الخارجية يتوجه لإسبانيا للتشاور حول مستجدات القضية الفلسطينية ومتابعة مسار العلاقات الثنائية    موعد مباراة حرس الحدود ضد سبورتنج والقنوات الناقلة    السولية: نهائي القرن أمام الزمالك هو اللقب الأصعب مع الأهلي    بالأسماء الأهلي يفاوض 3 لاعبين.. شوبير يكشف التفاصيل    احمد مجاهد يكشف حقيقة ترشحه لرئاسة اتحاد الكرة    موجة حر شديدة تجتاح عدة مناطق في مصر: توقعات بدرجات حرارة تصل إلى 45 درجة    شاومينج يزعم تداول أسئلة امتحانات الدبلومات الفنية 2024 عبر تليجرام    تحديد أولى جلسات استئناف الفنان أحمد عبدالقوي على حكم حبسه    هربا من مشاجرة.. التحقيق في واقعة قفز شاب من الطابق الرابع بأكتوبر    بحضور البابا تواضروس.. احتفالية "أم الدنيا" في عيد دخول السيد المسيح أرض مصر    مى عز الدين تطلب من جمهورها الدعاء لوالدتها بالشفاء العاجل    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر    هل يجوز أن اعتمر عن نفسي واحج عن غيري؟.. الإفتاء توضح    شروط الأضحية الصحيحة في الشرع.. الإفتاء توضح    طريقة عمل الكيكة الباردة بدون فرن في خطوات سريعة.. «أفضل حل بالصيف»    جامعة حلوان تحصد العديد من الجوائز في مهرجان إبداع    لتحسين أداء الطلاب.. ماذا قال وزير التعليم عن الثانوية العامة الجديدة؟    مواعيد قطارات عيد الأضحى المقرر تشغيلها لتخفيف الزحام    منحة عيد الأضحى 2024 للموظفين.. اعرف قيمتها وموعد صرفها    ما هي محظورات الحج المتعلقة بالنساء والرجال؟.. أبرزها «ارتداء النقاب»    «الإفتاء» توضح حكم التصوير أثناء الحج والعمرة.. مشروط    خبير سياسي: الاجتماع المصري الأمريكي الإسرائيلي سيخفف معاناة الفلسطينيين    بسبب سيجارة.. اندلاع حريق فى حي طرة يودى بحياة مواطن    وزير الري يؤكد عمق العلاقات المصرية التنزانية على الأصعدة كافة    وزير خارجية الإمارات: مقترحات «بايدن» بشأن غزة «بناءة وواقعية وقابلة للتطبيق»    سعر الريال السعودي اليوم الأحد 2 يونيو 2024 في بنك الأهلي والقاهرة ومصر (التحديث الصباحي)    إحالة تشكيل عصابي للمحاكمة بتهمة سرقة الدراجات النارية بالقطامية    «أوقاف شمال سيناء» تنظم ندوة «أسئلة مفتوحة عن مناسك الحج والعمرة» بالعريش    إضافة 3 مواد جدد.. كيف سيتم تطوير المرحلة الإعدادية؟    ل برج الجدي والعذراء والثور.. ماذا يخبئ شهر يونيو لمواليد الأبراج الترابية 2024    ورشة حكي «رحلة العائلة المقدسة» ومحطات الأنبياء في مصر بالمتحف القومي للحضارة.. الثلاثاء    «خبرة كبيرة جدًا».. عمرو السولية: الأهلي يحتاج التعاقد مع هذا اللاعب    أحمد موسى: الدولة تتحمل 105 قروش في الرغيف حتى بعد الزيادة الأخيرة    عمرو أدهم يكشف آخر تطورات قضايا "بوطيب وساسي وباتشيكو".. وموقف الزمالك من إيقاف القيد    الصحة تكشف حقيقة رفع الدعم عن المستشفيات الحكومية    "الأهلي يظهر".. كيف تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع تتويج ريال مدريد بدوري أبطال أوروبا؟    الزمالك يكشف حقيقة التفاوض مع أشرف بن شرقي    17 جمعية عربية تعلن انضمامها لاتحاد القبائل وتأييدها لموقف القيادة السياسية الرافض للتهجير    قصواء الخلالى ترد على تصريحات وزير التموين: "محدش بقى عنده بط ووز يأكله عيش"    من شوارع هولندا.. أحمد حلمي يدعم القضية الفلسطينية على طريقته الخاصة (صور)    بعد حديث «حجازي» عن ملامح تطوير الثانوية العامة الجديدة.. المميزات والعيوب؟    دراسة حديثة تحذر.. "الوشم" يعزز الإصابة بهذا النوع من السرطان    طبيب مصري أجرى عملية بغزة: سفري للقطاع شبيه بالسفر لأداء الحج    السفير نبيل فهمى: حرب أكتوبر كانت ورقة ضغط على إسرائيل أجبرتهم على التفاوض    صحة الإسماعيلية: بدء تشغيل حضانات الأطفال بمستشفى التل الكبير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإمام مصطفي المراغي‏..‏
كرامة الاستقالة
نشر في الأهرام اليومي يوم 19 - 11 - 2011

أعجبت بالشيخ أيما إعجاب‏..‏ كان مرادي ألتقي مرة في حياتي بمن مثله‏..‏ ولقيت مرادي في المراغي‏..‏ قلبي يا ناس كان مبتغاه يفرح بواحد يعلن الرفض الأبي الشامخ‏. ويقول أبدا ولا ممكن ومن ضروب المحال إني أغير مبادئي, أو أدير ظهري للحق, أو أخون شريعة وأحكام عقيدتي, أو أن أتجمد وأغلق مفاتيح الفهم والعقل والمنطق والخروج عن القرآن الكريم الذيارتفع بالعقل وسجل أن إهماله في الدنيا سيكون سببا في عذاب الآخرة: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.. شيخ اكتوي بالنار, أي والله بمية النار الهارئة التي سكبوها انتقاما علي وجهه ورقبته فيتلظي بأهوال الجلد المسلوخ, ويشيط لحمه الحي المدخن بولعة اللهيب, ورغم هذا لم يراوغ المراغي من جهره بالحق ومواجهة الباطل بقوله لا.. فضيلة الإمام الشيخ محمد مصطفي المراغي الذي أدار ظهره للملك فؤاد, وقال لفاروق الملك في أوج ملكوته وسطوة سلطته وجموح غضبته محال رافضا أمرا نازلا من فوق, من جالس علي العرش ووارث له العرش أبا عن جد.. ممن بيده العزل والحبس والتشريد, والتمجيد وخلع الأبعديات والألقاب والنياشين لمن لا يحني الهامة ومن يقول آمين!
شيخنا الجليل أبحرت في سيرته العطرة فزادني الشوق للهبوط علي فيروز شطآنه, والسكن في نعيم جناته لأهتف من جمع الفؤاد: الله عليك يا مراغي شيخا لأزهرنا الشريف, لكافة المسلمين في الريف والحضر, وفي بطون النجوع والقري والسهول والوهاد, وبلاد ببشرة سوداء, وبلاد تحكمها نساء, وخلق بعيون مسحوبة توحد ربها وتحج لبيت الله أفواجا تمسك بأيدي بعضها لبيك اللهم لبيك, وواحد اسم النبي حارسه وضامنه كان اسمه جون فأصبح من بعد وعيه بسماحة الإسلام إبراهيم يتمتم بالشهادة ويصلي علي الرسول في أرض الثلوج البعيدة, وصحفية اسمها لورين شقيقة زوجة توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق التي تشهر إسلامها لتعتلي منصة الميدان أمام البرلمان السويسري تخطب في الجمع الغفير عن سماحة الإسلام.
و..لأنني ورثت إعجاب أبي بالعالم العلامة الجليل وجدتني هذه الأيام بالذات أعود لأدور حول الصرح الشامخ أتعرف بروية علي ما جاء في سيرة زينة الشيوخ والرجال.. الذي لم يعرف الدجل ولا الكذب ولا مجاملة الأقوياء لأنهم أقوياء.. عف اللسان الحليم الذي لا يغضب إلا إذا شعر بأن أحدا يدنو من ساحة كرامته أو كرامة أزهره. المتفتح الذي عندما ذكر في مجلسه هلاك من لم يسلموا من الأجانب طرح عشرات من أسماء عظماء منهم خدموا الإنسانية قائلا: إنهم ناجون لأن دعوة الإسلام لم تصلهم.. الشيخ المستنير الذي أسر لصاحبه أنه قد قام بتحريض إحدي السيدات ذات الثراء عندما خاف عليها الفتنة بعد طلاقها من زوجها علي تعلم اللغة الفرنسية لتشغل وقتها بما يسليها في محنتها, وكان من أثر نصيحته أن تعلمت الفرنسية وانشغلت بأدبها حتي باتت تكتب بها الشعر.. المراغي قاضي قضاة السودان الذي استقبل ملك انجلترا ببلدة سواكن مع الحاكم الإنجليزي فصافحه كما يتصافح المتماثلون والأنداد, فعاب عليه الإنجليز الحاضرون بقولهم: كان يجب علي المراغي الانحناء للملك كبقية المستقبلين, فقال: ليس في ديننا سجود لغير الله.
المراغي ابن بلدة مراغة مركز جرجا, المولود عام1881, الصعيدي المستنير الذي تولي مشيخة الأزهر في سبتمبر عام1928 ليقدم استقالته بشجاعة بعد عام واحد معترضا علي اعتراض فؤاد الملك في تحرير الأزهر من جموده وتحويله إلي جامعة عصرية حديثة, فقد أراد للأزهر ضعفا وألا يغدو سوي مؤسسة دينية وظيفتها تأييد الملك المفدي والدعاء له من فوق المنابر.. ليس إلا.. ذاك لأن فؤاد كان يدرك بذكائه تأثير الشعور الديني وقوته لدي المصريين, فأراد أن يستغل تلك القوة الدينية الكبري لتسير في ركابه دعما لسلطانه.. وقد كان مشروع المراغي لتطوير الأزهر ينسف مخطط فؤاد, فبدلا من خدمة الأزهر التي تدور في فلك المليك, يتخرج الأزهري من بعد الجامعة الشاملة مرتبطا باحتياجات المجتمع كله لا بحاجة الحاكم في الدعاء له بطول العمر فقط.. المراغي التلميذ النابغة للمصلح الشيخ محمد عبده, من اقتنع بمنهجه الكريم في تزاوج الدين بالحياة.. في ربط شرف الأزهر بشرف المجتمع.. بكسر الجمود والركود في العقل العربي.. بالقناعة بأن العلوم الحديثة هي السبيل للتقدم.. بإرسال بعثات أزهرية إلي أوروبا لكي لا ينفصل الأزهر عن حركة النهوض الكبري في العالم.. وتحت قيادته بدأ الأزهر يتواصل مع المحافل والمؤتمرات العلمية العالمية, مبلغا دعوة الإسلام, بمنطق جديد, وملقيا الأضواء علي مميزات وامتيازات الإسلام, وما لديه من حلول للمشكلات الإنسانية, فشارك في مؤتمر تاريخ الأديان الدولي السادس المنعقد بمدينة بروكسل في20 سبتمبر1935, وقد مثله في هذا المؤتمر الشيخان مصطفي عبدالرازق وأمين الخولي, وعندما انعقدت الدورة الثانية لمؤتمر القانون الدولي المقارن بهولندا في أغسطس1937 كان علي رأس وفد مصر الفقيه القانوني الدكتور عبدالرازق السنهوري, فاختار المراغي الشيخ محمود شلتوت ممثلا للأزهر في هذا المؤتمر العالمي.
المراغي الذي أعد مصطفي النحاس باشا رئيس الوزراء مرسوم تعيينه شيخا للأزهر فاعترض الملك فؤاد لأنه كان يريد تعيين الشيخ الأحمدي الظواهري, لكن النحاس أصر, وتم له ما أراد, وبدأ المراغي في إعداد مشروع قانون بتنظيم الجامع الأزهر وجعله ثلاث كليات أصول الدين, والشريعة, واللغة العربية بعد أن كان التدريس يجري في صحن الجامع ولكل أستاذ عمود يجلس بجانبه ليلتف من حوله الطلبة اختيارا, ثم أعد مشروع قانون لتنظيم بعثات إسلامية تذهب إلي أفريقيا وآسيا عواصم ومدنا وقري ومجاهل لشرح مبادئ الدين الإسلامي سواء للمسلمين أو الوثنيين, وكان كلما فرغ من إعداد مادة من مواد القانون أرسلها للملك فؤاد للموافقة عليها, لأنه كان يتوجس خيفة من أن الملك سوف لا يوافق في نهاية الأمر علي القانون برمته, وقد صح توقعه إذ أبيالملك التوقيع, فقدم الشيخ استقالته.. وكان رئيس الوزراء عدلي يكن باشا من حاول إثناء الشيخ عنها بلا نتيجة, وكان رئيس الديوان الملكي توفيق نسيم باشا الذي طلب من الشيخ الحضور إلي مكتبه في السراي للتحدث معه, فرد المراغي قائلا: إذا أردت مقابلتي فاحضر إلي منزلي, فقال توفيق نسيم: لكني أمثل الملك! وجاءه رد الكرامة: وأنا خادم الله, وخادم الله أقوي من ممثل الملك..
الشيخ المراغي الذي ثار الأزهر مطالبا بعودته للإصلاح, وخرج الطلبة في يناير1935 وعلي رأسهم الشيخ أحمد حسن الباقوري هاتفا بعبارته الشهيرة: إما تحت راية المراغي, وإما إلي القري تاركين الأزهر للبوم والغربان, وجاء الرد العليوي علي نداء الأزهر بفصل اثنين وسبعين من شيوخه وعلمائه, ومنهم الشيخ شلتوت, والشيخ عبداللطيف دراز, والشيخ إبراهيم اللقاني, والشيخ السبكي, والشيخ محمد المدني.. وأخيرا اضطر الشيخ الظواهري شيخ الأزهر للاستقالة في27 ابريل1935 ليعود المراغي شيخا للأزهر ومن حوله كوكبة المفصولين والمنقولين, وبقي في منصبه عشر سنوات حتي وفاته في22 أغسطس..1945 عاد ينادي بالاجتهاد الذي كان بابه قد أغلق منذ زمن بعيد بسبب عكوف بعض الشيوخ علي الاسترخاء للتقليد.. كان المراغي يري في غلق هذا الباب توقفا لحياة الفكر الإسلامي ليغدو عاجزا عن العطاء.. كان يعيب علي رجال الأزهر أنهم يقرأون الكتب التي طبعت منذ قرون عديدة ولا يهضمونها.. يقرأون ويرددون.. يقرأون ويرددون.. والتلاميذ الذين يصغون إليهم لا يتعلمون إلا أن يقرأوا ويرددوا جيلا بعد جيل.. قال بوضوح عالم الأمور: إن المفكرين وعلماء الدين والمؤرخين والفلاسفة والرياضيين العظام والمسلمين المتقدمين لم تكن أحلامهم قط أن أفكارهم من بعد قرون عديدة بدلا من أن تستثمر وتنمو وتتطور, أن من أقدارها أن تظل تعاد وتعاد كأنها حقائق ثابتة غير قابلة للخطأ.. قال: نحن لو أردنا أن نبدل حالنا بأحسن منه علينا أن نشجع الفكر الحي بدلا من تقليد ما سبق من أفكار, وهذا هو الطريق إلي الإسلام.. قال: إن الجمود عند الموروث, والاكتفاء به مصادم لما تقضي به طبيعة الكون وطبيعة كل حي من النمو والتوليد.. والتناسل الفكري كالتناسل النباتي والحيواني والإنساني, كلاهما شأن لابد منه في الحياة, ولو وقف التناسل الفكري لفشل الإنسان في القيام بمهمة الخلافة الأرضية التي اختير لها ووكلت إليه منذ القدم.. قال: الجمود جناية علي الفطرة البشرية, وسلب لميزة العقل التي امتاز بها الإنسان, وإهدار لحجة الله علي عباده وتمسك بما لا وزن له عند الله..
الشيخ عندما رشحه الحاكم الإنجليزي ليكون قاضي قضاة السودان عام1919 رفض ترشيح الحاكم الإنجليزي له وطلب أن يكون تعيينه بمرسوم خديوي قائلا: إن قضاءه لا يكون شرعيا وصحيحا إلا بموافقة حاكم مسلم.. وتم له ما أراد ليكون أول قاضي قضاة يعين بمرسوم خديوي.. أتي بقضائه العادل ليلغي الطلاق بالثلاث ويجعله طلقة واحدة.. حتي لا ينهار البيت ويتشرد الأولاد, والزوجة لا تغدو الغريبة المحرمة ولا ترد لبيتها إلا من بعد عذابات وإحراج اللجوء إلي المحلل لأن زوجها أوقع عليها في لحظة غضب أو سكر أو جنون يمين الطلاق بالثلاثة.. لا.. طلقة واحدة غير بائنة لترد إليه زوجة وترد وترد مرتين قبل تأديب وتهذيب وترهيب وتنكيل المحلل.. المراغي الذي أجاز للحفيد أن يرث جده إذا ما كان والده قد مات في حياة الجد, وكان الأحفاد يحرمون من ميراث جدهم بسبب وفاة والدهم لأن أعمامهم الأحياء يحجبون عنهم الميراث, فيطردون مع أمهاتهم من بيوتهم, ويغدون في طرفة عين متسولين بعد أن كانوا من المانحين المستورين.. أتي المراغي بلجنة من كبار علماء الشريعة والقانون فاهتدوا إلي الآية180 من سورة البقرة التي يقول فيها القرآن الكريم: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا علي المتقين إنها الآية الصريحة في أن أول من تجب له الوصية هم أولاد المتوفي في حياة أبيه, فيوصي لهم الجد بنصيب أبيهم بالثلث.
المراغي الذي أمر من خلال رئاسته للمحكمة الشرعية العليا عام1923 أن تؤلف لجنة برئاسته من أجل مراجعة قوانين الأحوال الشخصية مقترحا أن تتخلص من تبعيتها المطلقة للمذهب الحنفي, وأن تختار من أقوال المذاهب الأخري ما يتناسب مع المصلحة العامة, وما يكون أيسر للناس في حدود الشريعة السمحة المتوسعة التي فيها كما يقول: ما يجعلنا نجد في تفريعاتها وأحكامها في القضايا المدنية والجنائية كل ما يفيدنا وينفعنا في كل وقت, وما يوافق رغباتنا وحاجاتنا وتقدمنا في كل حين.
المراغي.. القاضي في قضية وقف أراد أصحابها أن يتنحي عن نظرها مقابل عشرة آلاف جنيه كانت في ذلك الوقت بمثابة ثروة طائلة تقدر بملايين زماننا.. رفض رجل الدين الشريف الرشوة ضاربا بذلك عرض الحائط, فأتي الثأر منه بإلقاء مية النار عليه يوم الحكم, فأصيب بحروق بالغة دارت تنهش عنقه وصدره.. وهنا حدث ما لم ولن يتكرر في تاريخ القضاء.. لقد تحمل المحترق آلام النار الكاوية الناهشة ودخل قاعة المحكمة لينطق بالحكم العادل قبل نقله فوق المحفة مغشيا عليه إلي المستشفي!
وترصد عين التاريخ أن الملك فاروق كان في أفضل صورة شعبية له منذ عام1936 حتي عام1945 في ظل حياة الإمام ولم تبدأ مظاهر الفساد والإفساد في الدوائر الملكية إلا بعد وفاة الشيخ في عام1945, فقد كان منهاج فاروق احترام شيخ الأزهر ورأيه وما تحويه خطبه من تعاليم الإسلام, حتي أن الشيخ قد وقف علي منبر الأزهر ليلقي خطبة الجمعة قبل وفاته بعامين وأمامه الملك والأمراء والوزراء وعلية القوم, وكان موضوع الخطبة شرح الآية: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.. وبعد شرح الآية قال المراغي حاسما: هذا وعد الله الحق لعباده الذين آمنوا به وبرسوله, وعملوا الأعمال الصالحة لأنفسهم, ولبني وطنهم وللناس كافة.. وعدهم سبحانه بأن يمكنهم في الأرض آمنين مطمئنين سادة أعزاء, ماداموا سائرين علي ما رسمه لهم من صراطه المستقيم.. ثم رفع رأسه قائلا: أما إذا انصرف أمراؤنا إلي الترف ووزراؤنا وكبراؤنا إلي مجرد التمتع بالحياة وزينتها ولا يذكرون الله إلا قليلا.. إذا حصل ذلك, فلا ننتظر من الله إلا مقتا.. هنا مال نجيب الغرابلي باشا يهمس في أذن عبدالجليل عيسي أحد تلاميذ المراغي الجالس بجواره يسأله بتعجب: أين نحن الآن؟! فأجابه: في الجامع الأزهر فعاد الغرابلي هامسا: في أي زمن؟! فقال: في القرن الرابع عشر الهجري أي القرن العشرين الميلادي, فعاد الباشا يقول: لا.. لا.. نحن الآن والله في القرن الأول الهجري.. فأدرك عبدالجليل ما أراد قوله وصدق عليه, فقد كان الخطاب هداية وتنويرا, والمستمع منصتا ملتزما ونبيلا بل يذكر الله علي حبات مسبحته في وقار الإيمان..
المراغي أيضا في حضرة المليك في مناسبة أخري وبشجاعة نادرة يلقي خطبته داخل المسجد منددا بالاستعمار, محذرا مصر من دخول الحرب إلي جانب الإنجليز, معلنا قوله المأثور: هذه الحرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل.. وانزعج الإنجليز حتي أن السير مايلز لامبسون أيقظ رئيس وزراء مصر وقتها حسين سري ليطلب من الإمام أن يطلعه بعد ذلك علي جميع خطبه قبل أن يلقيها علي الناس, فأصيب الشيخ بالأسي وقال إنه يستطيع أن يقيل السير لامبسون ذات نفسه بخطبة واحدة منه علي منبر الأزهر أو مسجد الحسين.. ولاذ رئيس الوزراء بالصمت, وحذا السفير البريطاني حذوه!!
تسامحه مع أبناء دين غير دينه ورثه الإمام عن والده.. كتب عن ذلك مراسل جريدة التايمز الإنجليزية في مصر قرياقص ميخائيل في مقال له نشرته الجريدة بالإنجليزية بمناسبة تعيين الشيخ المراغي شيخا للأزهر عام1928 قال فيه: إن والد الشيخ واسمه مصطفي عبدالمنعم المزارع ببلدة المراغة كان أقباطها حين يريدون الحج إلي بيت المقدس يتركون أموالهم ومصاغهم وديعة لديه.. ويروي الابن أحمد مرتضي المراغي عن والده الإمام: كان علي صداقة وود بالغين مع المرحومين البطريركيين الأنبا كيرلس ثم بعده الأنبا يؤنس, وكانوا يتبادلون الزيارة إما في منزل الشيخ المراغي بحلوان, وإما في البطريركية, وأذكر أن والدي الشيخ المراغي اصطحبني معه في زيارة قام بها للأنبا يؤنس للتهنئة بعيد الفصح, وفي أثناء الحديث قال والدي للبطريرك يؤنس: ادع لابني لتحصل له البركة.. فضحك الأنبا الذي لم يكن متزمتا حاله حال والدي وقال ضاحكا: تكفيه بركتكم يا سيدنا الشيخ.. كان والدي يعي تماما ما ورد في القرآن عن المسيح عليه السلام وأنصاره, وما قاله سبحانه وتعالي عن مريم البتول:.. يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك علي نساء العالمين.. وكان يردد ما ورد في الحديث الشريف عن أقباط مصر ووجوب رعايتهم لأن للمسلمين فيهم رحما ونسبا, مشيرا إلي زواج النبي بالسيدة مارية القبطية أم إبراهيم عليه السلام, وما ورد عن إباء الخليفة الجليل عمر بن الخطاب الصلاة في كنيسة بيت المقدس تخوفا من أن يحولها المسلمون إلي مسجد, وعما قام به عمر بن الخطاب من استدعاء الصحابي الجليل فاتح مصر عمرو بن العاص إلي مقر الخلافة بالمدينة لأنه سمع أن ابن عمرو ضرب غلاما قبطيا سابقه فسبقه الغلام, حتي أن عمر بن الخطاب ناول الغلام القبطي عصا وقال له اجعلها في صلعة عمر, ثم قال عبارته التاريخية: متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.
ومن ضروب المثال علي ما كان عليه شيخنا من رهافة الحس والشعور البالغ بالعطف علي المظلوم, واحتواء من يقع عليه جور التعدي موقفه الإنساني من الأديبة مي زيادة في مأساتها عندما ساقها أقرباؤها ظلما وتعسفا لتسجن خلف أسوار العصفورية في لبنان مدعين جنونها.. كان الشيخ المراغي ممن استفسر عنها وأرسل يسأل عن أحوالها, وعندما عادت لمصر كانت أولي زياراتها له في مقره بالأزهر, بينما رفضت الرد علي طه حسين والعقاد اللذين صدقا كذب المكيدة التي حيكت ضدها وكان أولي بهما وهما من عرفاها عن قرب الوقوف بجوارها في محنتها ونزع فتيل المكيدة التي ساقتها إلي محبسها الانفرادي خلف أسوار عالم الجنون.. و..ذهب الشيخ ليستمع إلي محاضرتها في الجامعة الأمريكية التي ألقتها يوم20 يناير عام1941 لتثبت للجميع حسن منطقها وسلامة عقلها, وكانت بعنوان عش في خطر التي قالت فيها: الدنيا كلها خطر, وتاريخها حافل بالأخطار, وأنت تولد في لحظة خطر لتمضي في طريقك المقدر لك حاملا حقيبة خطر تلازمك في جميع أسفار حياتك, وهذا التلازم يجعلك توأما للخطر فلا تخشاه, بل واجهه, وامتطي ظهره, واجعل مقوده ملك يديك, فإذا ما أنت تسوسه فلن يستطيع أن يلوي عنقه ناحيتك إلي الخلف ليوقع بك.. ودمعت عينا المراغي الذي ذهب ليستمع للمحاضرة مدعما بحضور فضيلة الإمام الأكبر موقف الأديبة المظلومة صاحبة أشهر صالون في الشرق.
ويمرض الشيخ العظيم ويدخل مستشفي المواساة, ويخطر للملك فاروق أن يزوره للاطمئنان علي صحته, وفي ساعة ضعف أو صفا يحصل منه علي مبتغاه.. طلب فاروق من الشيخ المريض أن يصدر فتوي تحظر علي الملكة فريدة الزواج بعد طلاقها منه.. وما أن نطق فاروق بطلبه حتي استوي المريض المتهالك جالسا وسط الفراش غاضبا متعجبا من هول الطلب حتي ولو جاء علي لسان ملك.. مجيبا بكل الحزم المعروف به: أما الطلاق يا مولاي فلا أرضاه, وأما التحريم فلا أملكه.. إن المراغي لا يستطيع أن يحرم ما أحل الله.. وذهب فاروق مشفقا علي هزال شيخه الذي يحبه ويحترمه كاظما غيظه لأنه لم يستطع استمالته لتحقيق مطلبه, فلم يكن يتصور يوما أن يكون هناك زوج من بعده في حياة فريدته.. ويلاحظ الشيخ المريض أكثر من مرة أن جمع من الممرضات الأجنبيات يرتدين مع قدوم المساء ملابس السهرة المتبرجة فيسأل الدكتور النقيب مدير المستشفي عن تلك الظاهرة, فيقول له النقيب إن هؤلاء الحسناوات مطلوبات علي الدوام في حفلات القصر الملكي بأمر خاص من المليك, فيثور الشيخ غاضبا قائلا للنقيب حين تري الملك قل له إن المراغي لا يرضي أن يقابل وجه الله وهو إمام لك, وكتب استقالته وأرسلها للملك فاروق الذي منع نشرها وحفظها فيأدراج الكتمان بدون تعليق, كما سبق له عدم التعليق علي أحد أحاديث الشيخ الدينية التي كان يلقيها في شهر رمضان والملك جالس أمامه تحت المنبر: يا صاحب الجلالة أين عرش قيصر وكسري؟! وأين مال قارون؟! لقد ذهب كل ذلك ولا يبقي إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
المراغي.. أستوحش خصالك.. أستجير بسيرتك في أيامنا هذه الصعبة الوحشة.. فضيلة إمام الفضائل محارب جلمود الجمود.. لقد عاد يا مولانا الجمود بشراسة يطل من جميع الشقوق برؤوسه المشعثة وسحناته المكدرة يبتر الآذان ويؤذي السمع بلغو الكلام, ويحطم الشواهد والقبور والنفوس والآمال والأحلام والابتسام, ويدعو بدعوي الجاهلية التي جعلت مسيرتنا في نفق أسود نهايته حائط سد.. المراغي.. الأزهري صاحب هزة النهضة الكبري.. المقيم جسرا للمحبة مع الآخر.. معلم الشعوب والملوك.. مترجم معاني القرآن للإنجليزية ليطلع الغرب علي ما فيه من توحيد وتنزيه ومكارم أخلاق وسماحة.. المستنير المنادي بالتغيير.. المنصت لأدب المرأة.. المرشد لخطاها.. المنصف لأبنائها.. الكابح لجماح لسان زوجها.. المستقيل الأول في بلد لا يعرف فيها أصحاب الكراسي معني ولا كرامة الاستقالة.. القائل من موقع قداسة الموقع: قدموا لي ما يفيد الناس وأنا أقدم لكم سندا له في الشريعة الإسلامية.
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.